وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِمُ * وَلَيسَ كَريمُ القَوم مَن يَحمِلُ الحِقدَا
لو كان المقنع الكِندي كويتيا لوجد قوله هذا مجسَّما في سياسة الدولة الكويتية تجاه جارها الشمالي الكبير، جمهورية العراق!
فعلى أبواب احتفالها بالذكرى 27 لتحريرها من الاحتلال العراقي الذي رام القضاء على وجودها كدولة مستقلة، استنفرت الكويت أشقاءها وأصدقاءها وبذلت من عند نفسها لتساعد العراقيين في إعادة إعمار بلدهم الذي دمرته الحروب، ومزقه الإرهاب...
"مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق" استجاب له العالم، وقدم بشفاعة الكويتيين حوالي 30 مليار دولار من القروض والاستثمارات والهبات للدولة العراقية...
لما ذا تفعل الكويت كل ذلك للعراقيين؟
سؤال يبدو طبيعيا في سياق السياسات العربية التقليدية المبنية في الغالب على العواطف والمغالبات والمهاترات السياسية والثارات العصبية!
غير أنه في هذه المبادرة الكويتية الفريدة من المعاني السياسية والحكمة ما هو جدير بالنشر والتأمل؛ لأنها تنم عن رؤية مختلفة، ونظرة بعيدة. حيث أن خروج العراق من مآسيه ومشاكله، وعودة الاستقرار والازدهار إليه ستعم فوائدهما، مقابل المخاطر والهموم التي يخلقها الدمار والاضطراب في العراق وتتجاوز حدوده إلى جيرانه وإلى المنطقة كلها...
والحقيقة أن للكويت تاريخا من التميز في منطقتها الخليجية وفي العالم العربي عموما، يبدأ من ريادتها في المجالات السياسية والثقافية...
فعلى الصعيد السياسي الداخلي كانت الكويت أول بلد خليجي يشهد انتخاب مجلس نيابي يمارس صلاحيات برلمانية حقيقية على مستوى التسيير الحكومي العام على الأقل. وقد انتُخب هذا المجلس بالاقتراع الشعبي لأول مرة عام 1963م، وما يزال دوره فعالا وحاسما في السياسية الداخلية.
وعلى الصعيد الإعلامي والثقافي عرفت الكويت أول صحافة خليجية متعددة، تتنافس فيها صحف سيارة قوية، ودوريات واسعة الانتشار؛ كما أنها كانت صاحبة النجاح الخليجي الفريد في مجال الإنتاج التلفزيوني والسينمائي المنتشر.
وفي هذا المضمار لا يمكن نسيان الدور الخاص الذي قامت به مجلة "العربي" الكويتية في التعريف بالدولة الموريتانية عربيا، بُعيد استقلالها؛ من خلال تحقيقاتها الميدانية في بداية الستينيات. فكانت أول وسيلة إعلام عربية تتحدث عن عروبة موريتانيا. وكانت صاحبة تسميتها الرائجة باسم "بلاد المليون شاعر"، لأن سكان موريتانيا في ذلك الوقت كانوا لا يتجاوزون المليون نسمة تقريبا!
ولدولة الكويت قدم صدق راسخة في مجال التضامن العربي، بالأفعال لا بالأقوال فقط. يشهد لها مؤتمر إعمار العراق المذكور، وتجسدها علاقاتها الحسنة مع كافة الدول العربية، وأدوار الإصلاح والوساطة بين جيرتها من دول الخليج المتناكفة (مثل الأزمة الحالية) ومَد يد العون لأشقائها العرب، والتقرب منهم مهما بَعُدوا جغرافيا.
ولا أدل على ذلك من مثال التواصل الكويتي مع موريتانيا على أعلى المستويات؛ حيث قام أمير الكويت الحالي الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح بزيارتين اثنتين لموريتانيا في عهد الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز (2010 و2016) وكان من الزعماء العرب القلة الذين حرصوا على حضور القمة العربية الموريتانية بأنفسهم.
في عالمنا العربي كان الجميع يرفعون شعارات التضامن العربي؛ ولكن ذلك التضامن في الغالب لا يخلو من شوائب الاعتبارات "الأيديولوجية"، قبل أن تظهر عليه أعراض الأمراض السياسية، أو تنسفه العواصف الدبلوماسية!
لكن دولة الكويت، منذ قيامها، ظلت مخلصة لمبادئ التضامن العربي، متسامية عن تلك الأغراض الأنانية، والاعتبارات العاطفية، قوية الإحساس بهموم ومشاكل شعوب أمتها العربية الإسلامية، تبذل معروفها للجميع بدون منٍّ ولا أذى.
ولا يصح التضامن العربي ولا يكون له معنى بدون حمل الهموم والقضايا العربية التي من أول أولوياتها القضية الفلسطينية.
وهنا نجد أن الكويت، رغم مأساة احتلالها والعلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة (التي يفرضها الوفاء لموقفها الحاسم في تحرير الكويت) لم يتغير على الإطلاق موقفها الثابت من الكيان الصهيوني؛ فلم تستَهْوها أو تزحزحها المواقفُ العربية التي استخفتها أوهام "السلام" ومزاعمه فأقبلت على أنماط متفاوتة من التطبيع والعلاقات الصريحة أو الاتصالات المخفية مع دولة الاحتلال... وكلها علاقات لم تُجدِ نفعا للفلسطينيين المقتَّلين والمشردين، ولم تقرب السلام المزعوم.
ولا تزال أصداء موقف رئيس مجلس الأمة الكويتي، مرزوق الغانم، من الكيان الصهيوني خلال مؤتمر البرلمان الدولي الأخير في "سان بطرسبورغ"، محل اعتزاز وتقدير من الشعوب العربية، وخاصة الموريتانيين، على كل المستويات...
ولا بد في الأخير من الإشارة إلى أن الجهد العظيم الذي بذلته الكويت في حشد الدعم العالمي لإعادة بناء العراق ومساعدته في تخطي محنته والانطلاق في نهضة حقيقية، يجعلنا ـ نحن الموريتانيين ـ على ثقة من أننا سنكون موضع تقدير ومراجعة وجدارة بمزيد من الدعم والمساعدة في التنمية من طرف الأشقاء الكويتيين على مستوى مجلس الأمة الكويتي؛ وذلك بمبادرة منهم بشطب الديون الكويتية المتقادمة على موريتانيا، انطلاقا من نفس التضامن العربي والرؤية المستقبلية في تجاوز المسألة العراقية برمتها وارتداداتها السياسية.
وهو ما كانت فعلته عدة دول ومنظمات عالمية قبل سنوات قليلة.
تاريخ العلاقات الموريتانية الكويتية
تعود أولى جذور الاتصال والعلاقة بين الشعبين الموريتاني والكويتي، إلى ما قبل عهد استقلال دولتيهما.
فرغم أن الشناقطة كانوا يأتون الحِجاز حجاجا فيرجعون أو "يُجاورون"، فقد وصل منهم "سفراء" عِلم وتدريس إلى الكويت في أوائل القرن العشرين.
ونذكر على رأس هؤلاء العلامة محمد الأمين بن فال الخير الحسني الشنقيطي (1875-1932م) مؤسس ورئيس مدرسة النجاة في "الزبير" (البصرة). فقد أقام قبل ذلك في الكويت وتولى التدريس في "المدرسة المباركية"، رائدة التعليم في الكويت والخليج، في عهد الشيخ مبارك الصباح. وكانت له بعد ذلك علاقات علمية وصداقة خاصة مع الشيخ أحمد الجابر المبارك الصباح الذي ترأس بنفسه حفل تكريم مهيب أقامه النادي الأدبي في الكويت للشيخ الشنقيطي سنة 1924م.
وهناك شنقيطي آخر هو العلامة محمد محمود التندغي الذي مرَّ بالكويت وربما درَّس فيها لفترة وجيزة قبل أن يلتحق بمَلِك العراق فيصل بن الحسين الهاشمي (1883-1933م) في بغداد، مدرسا ومفتيا، ثم يهاجر إلى الأردن.
كان هذا في عهد دولة الكويت، قبل أن تقوم الدولة الموريتانية المستقلة سنة 1960م، ويطلق اسمها على تلك البلاد ذات البداوة العالمة التي كانت تعرف ببلاد شنقيط، والمغرب الأقصى...
وحين استقلت موريتانيا عن فرنسا، لم تكن فيها منشآت ولا أي شيء من مقومات الدولة الحديثة، بل كان معظم جيرانها العرب يعارض استقلالها ويطالب بها، مما منع انضمامها إلى جامعة الدول العربية ثلاث عشرة سنة!
وكانت الكويت في هذه المرحلة أولى الدول العربية ـ بعد تونس ـ التي تصل موريتانيا وتقدمها للأشقاء كبلد عربي، عبر إعلامها الطموح؛ حيث قَدم بعضَ معالمها وأبرز عروبتها الصريحة الفصيحة؛ مما كان له الأثر في لفت انتباه العرب إلى تلك البلاد النائية، واكتشاف ملامحها وتاريخها، وإنتاجها العلمي العربي الغزير...
وما لبثت العلاقات الدبلوماسية أن اختصرت المسافات الطويلة بين الكويت ونواكشوط؛ فكانت زيارة أمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح في منتصف السبعينيات في عهد الرئيس الموريتاني المؤسس المختار ولد داداه، بداية تعاون وترابط أخوي قوامه بذل الكويت السخي لموريتانيا ومساعدتها الكبيرة في مجالات التنمية المختلفة.
ويمكن القول دون مبالغة إن الكويت كانت البلد العربي الأول الذي كسر احتكار فرنسا والدول الأوروبية للتدخل في برامج التنمية الهيكلية في موريتانيا، مع ما قامت به من إنجازات مباشرة في مجال الصحة والتعليم والسياحة...
وفي نفس الوقت استقبلت مؤسسات التعليم والتكوين الكويتية، في السبعينيات، طلابا ومتدربين موريتانيين من ذوي الثقافة العربية؛ كان لهم نصيب معتبر في فك الحصار الذي تفرضه ثقافة المستعمر الفرنسية على غالبية الموريتانيين ممن تقتصر دراستهم في ذلك الوقت على المدارس التقليدية (المحظرة) وعلومها الشرعية والعربية.
وفي مجالات تمويل البرامج التنموية وإنشاء البنى التحتية ظلت الكويت تقدم بواسطة الصندوق الكويتي للتنمية، وغيره من مؤسسات التمويل العربية والدولية، مساعداتها السخية إلى الدولة الموريتانية، كما قامت بواسطة هيئاتها الإنسانية والخيرية بالتمويل المباشر لكثير من المشاريع والبرامج الإغاثية والاجتماعية والإسلامية انتشرت في كل أنحاء موريتانيا، متصلة بالمستحقين مباشرة...
وعلى الصعيد الشعبي تحتضن الكويت اليوم جالية موريتانية نخبوية، تساهم بجدارة وتقدير كبير في قطاعات التعليم والأوقاف وغيرهما...