كتوطئة، لم يستطع اتفاق داكار الذي وقعته مختلف الأطراف السياسية ان يسفر عن حل مستديم للأزمة السياسية الموريتانية المزمنة بين النظام الحالي والمعارضة التي توصف بالراديكالية، او ينعت بعضها بذلك. لقد حال على هذه الأزمة عقد من الزمن دون ظهور علامات لانفراجها قبل نهاية المأمورية الرئاسية الثانية لرئيس الجمهورية الحالي محمد ولد عبد العزيز، حتى الآن، وربما تستمر على هذا المنوال حتى بعد استحقاقات 2019 إن أفرزت النتائج، حسبما هو متوقع ، "تغييرا شكليا" في رأس النظام مع استمرار سيطرة حزبه، المنتشي الآن فرحا بانتسابه المليوني، على مقاليد السلطة !
إن انعدام الثقة الذي ظل يطبع العلاقة بين الأغلبية الحاكمة وأهم قوى المعارضة جعل كل مساعي إطلاق حوار شامل يجمع مختلف أطياف المعارضة بالسلطة وموالاتها، يراد منها ان تفضي إلى حل لهذه الأزمة، تتوقف في وسط الطريق، او يترتب عنها حوار تنجح السلطة في شق الصف المعارض وجر بعض رموزه إلى الدخول فيه. ورغم أهمية بعض نتائج تلك الحوارات غير الشاملة (حواريْ 2011 و2016) وما ترتب عنها من إصلاحات طالت المنظومة الدستورية والمؤسساتية والانتخابية والحقوقية والحزبية، فإنها لم تفلح بعد في وضع حد نهائي للأزمة السياسية نظرا لمقاطعة طيف واسع من المعارضة لأشغال جلساتها وجدول اعمالها.
وحتى لانطيل في السرد الممل لكرنولوجيا محطات هذه الحوارات وأسباب تعثرها في لم شمل مختلف الفرقاء السياسيين، فسندلف أولا إلى الحديث عن أهم النتائج التي أسفرعنها حواريْ 2011 و2016 المتعلقة اساسا بالمنظومة الحزبية، لما يترتب على ذلك من معرفة أكثر دقة بمدى بطبيعة التعديلات والإصلاحات التي تم إجراؤها على القانون المنظم للأحزاب السياسية، وعلى ضوء ذلك ستتحدد اهم سيناريوهات المعارضة المحتملة لخوض المرحلة القادمة .
إن الفوضوية التي تشهدها الساحة السياسية الموريتانية في تأسيس الأحزاب ساهمت في تمييع العمل السياسي الحزبي؛ إذ لايستساغ ان بلداً بالكاد يبلغ عدد سكانه 4 ملايين جاوز عدد الأحزاب المرخصة فيه حاجز المائة، رغم ان اغلب هذه الأحزاب يمكن وصفه بأنه مجرد أحزاب ورقية لايتمتع بقواعد شعبية تذكر. وسعيا من الأطراف السياسية المشاركة حوار 2011 إلى وضع حد لهذا السيل الجارف لعدد الأحزاب، تم التنصيص في وثيقة مخرجات هذا الحوار على ضرورة وضع نص قانوني يواجه ظاهرة التكاثر العددي للعناوين الحزبية. ومن رحم هذه المخرجات ولدت الإصلاحات القانونية التي شهدها القانون رقم 024- 2012 المعدل للأمر القانوني رقم 91-024 الصادر 25 يوليو 1991 المعدل، المتعلق بالأحزاب السياسية، حيث أصبحت المادة 20 من هذا القانون تنص في فقرتها الأخيرة على انه يتم بقوة القانون حل كل حزب سياسي لم يشارك في اقتراعين بلديين اثنين متواليين، أو قدم مرشحين لاقتراعين بلديين اثنين وحصل على أقل من 1 % من الأصوات المعبر عنها في كل اقتراع.
هذا النص يصب بكل تأكيد في منحى مأسسة الأحزاب وتدعيم مراكزها والحد من تشرذمها، بالإضافة إلى العمل على تحجيم موجة الترحال السياسي التي كانت تعاني منها الساحة السياسية الموريتانية، وذلك بالتنصيص على ان كل منتخب (أيا كان نوع منصبه الانتخابي) يفقد مقعده الانتخابي في حالة استقالته من الحزب السياسي الذي رشحه أصلا وفاز باسمه في الانتخابات.
هذه الإصلاحات، رغم انها تستهدف مختلف الأحزاب سواء كانت موالية او معارضة، والتي ستتأثر بها سلبا وإيجابا، فإنها حصرت خيارات البقاء قانونيا وسياسيا بالنسبة للأحزاب التي قاطعت الانتخابات البرلمانية والبلدية 2013، بل جعلت هذه الأحزاب بين مطرقة " الإقصاء او التغييب" من المشاركة في تشكلة حكماء اللجنة المستقلة للانتخابات، التي تم الإعلان عنها مؤخرا، وسندان هاجس الحل القانوني، ومن ثم الموت سياسيا، إن هي لم تشارك في الانتخابات البرلمانية والبلدية والمجالس الجهوية المقبلة؛ ما يجعل المعارضة ترضخ، ولو على مضض، للخيارات المحدودة التي يفرضها الأمر الواقع؛ ما يستنتج منه ان خيارات سيناريوهات المرحلة القادمة محفوفة بالعديد من الإكراهات التي من الصعب تحمل ابتلاع طعمها الزعاق، بغض النظر عن ايّها تم الأخذ به، وذلك نظرا للآتي :
- سيناريو المشاركة :
أولا : إذا شاركت المعارضة ( المنتدى والتكتل) في الاستحقاقات القادمة فإن المشاركة في هذه الحالة تحيل مبدئيا إلى الاعتراف ضمنيا وواقعيا باللجنة المشرفة على الانتخابات، رغم انها تصفها بعدم الشرعية، في حين سترضخ لإملاءاتها وخطتها المرسومة لتسيير العملية الانتخابية؛
ثانيا : من حيث المعقول والمنطق يترتب على المشاركة الترشح لمختلف المناصب الانتخابية بما في ذلك المجالس الجهوية، وهو ما سيجعل المعارضة في موقف حرج بل وتناقض صارخ؛ فألسنتها مازالت ندية بالطعن في شرعية الاستفتاء الدستوري الأخير باعتبار ان عملية الاقتراع شابها تزوير واسع شمل حتى "تصويت الأموات" قبل الأحياء، في حين تقبل بنتائج هذا الاستفتاء ، واقعيا، ولاتألوا جهدا في محاولة قطف ثماره من خلال الترشح للمجالس الجهوية المنبثقة عنه. اللهم إذا حاولت الجمع بين المشاركة والمقاطعة ؛ أي الترشح للمقاعد البرلمانية والبلدية وعدم الترشح للمجالس الجهوية وهو امر مستبعد جدا، وحتى لو قررت الترشح للمقاعد البرلمانية والبلدية فقط، هربا من التناقض المشار إليه، فستصطدم لامحالة بالمادة 46 من الدستور المعدلة في المراجعة الدستورية التي أجريت في 5 أغسطس 2017، التي تنعتها بعدم الشرعية ، واصبح على إثرها نص هذه المادة هو : "يتشكل البرلمان من غرفة تمثيلية واحدة تسمى الجمعية الوطنية" في حين كان نصها الأصلي : "يتشكل البرلمان من غرفتين تمثيليتين: الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ". هنا ستجد المعارضة نفسها لا مندوحة لها عن الوقوع في فخ التناقض؛ إذ تقبل الترشح لبرلمان تعتبر تشكلته لا دستورية لأنها مبنية على أساس باطل، الا وهو المراجعة الدستورية الأخيرة. إلا إذا كانت المشاركة هنا بالنسبة للمعارضة مبرَّرة على انها استثناء يثبت قاعدة "ما بني على أساس باطل فهو باطل " !!
- خيار المقاطعة = سحب الاعتراف :
لنفترض جدلا ان المعارضة فضلت خيار مقاطعة الانتخابات المقبلة، وإن كان هذا الخيار مستبعد، كما هو شأنها مع انتخابات 2013، ما يعني بداهة انها لم تشارك في اقتراعين بلديين متواليين؛ في هذه الحالة ستجد المعارضة نفسها أمام ضربة قاسية، عصاها قانون نافذ صريح ينص على انه يتم بقوة القانون حل أي حزب سياسي لم يشارك في اقتراعين بلديين متواليين. والمستجير، من الأحزاب المعارضة في كربته هذه، بالسلطة الحاكمة كالمستجير من الرمضاء بالنار !