كم هو خطب جلل ورزء عظيم أصاب الموريتانيين اليوم، بل وأصاب الأمة وثلم الدين، حيث تركَنَا اليوم لمربط الحاج بن السالك بن فحف الأمسمي، العالم الورع الزاهد، إلى روضة من رياض الجنة سقاها طول حياته المباركة بدموع الخشية وأنارها بسجود السحر، فأشرقت له اليوم وأخرجت زخرفها وأنبتت من كل زوج بهيج.
لا يعرف اليوم المعزِّي من المعزَّى فالكل في الفاجعة سواء، أهله وذووه.. أجيال ممتدة من تلامذته الذين نهلوا من معين علمه وتشربوا من حميد سجاياه وتربوا على سمْته وهدْيه.. ملايين المسلمين الذين أشربوا في قلوبهم حب الرجل الصالح الذي وضع الله له القبول بين عباده.
لن أحصّل حاصلاً بالحديث عن علم لمرابط الحاج، فقد طارت به الركبان وشرّق في البلاد وغرب…
حديثٌ معادٌ فيه تحصيل حاصل *** ومخض مياه لا يحصل غير ما
لكني أتوقف قليلاً مع ورعه وزهده الذي ينعدم نظيره في زمن لا صوت فيه يعلو فوق صوت النقود.. فكأني بذلك الشيخ الوقور المهيب وقد أمسك بعود وجعل يبعد عن فراشه صرّة من النقود قرّبها أحد زواره، وكأنما يبعد نجساً أو يدفع عدواًّ.. قصة ليست من نسج الخيال، بل هي واقع تكرر وحديث تواتر على ألسن الشهود الثقات.
كأني به قبل عقود من الزمن إبان بداية التمدن في مدينة "كرو" وهو يخاطب الناس (يا أهل كرو اتقوا الله فإني أراكم تبنون بناء الخالدين)..
قد طلّق الدنيا ثلاثاً زاهداً *** لم تغره بزخارف وأماني
للناس دنياهم وللحاج آخرته، عاش بعيداً عن الأضواء والأهواء كأنما هو غريب أو عابر سبيل، يلتحف السماء ويفترش الأرض ويصل قيام الليل بصيام النهار.. يؤتَى به إلى المسجد خمس مرات في اليوم والليلة يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، فإذا أقيمت انتصب وكأنما نشط من عقال..
اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب.
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.