لعلَّ الغُرور من الشِّيَمِ المتأصِّلة في نفوس بعض المخلوقات، مهما كان حظها بالغَ الضآلة من رصيد العظمة، في حين تسكن عظائم المخلوقات إلى الله ملتحفة بثوب الوقار في انقياد مطلق وطاعة دائبة .
ولعل من أكثر الخلائق غرورا ذلك المسمى بالإنسان " ، فهو على ضخامة ما "أوتِيَ" من مواهب وملكات تصنع المستحيل، وتبعث على الإدهاش؛ في تجليات صنائعها الموغلة في الجلال والإبداع، خليقٌ بأن يدرك أن ما لديه ليس إلا ذرة – والذرة تضخيم له في واقع الأمر –في جنب ملكوت "بدائع صنائع" الله الهائلة : أشكالا، وأوزانا، وتراكيب، وتأثيرا في الوجود بل هو نفسه في أسمى "انفجارات "عظمته وطفوحها ما هو إلا تَجَلٍّ واحد من تجليات عظمة الخالق الكبير – سبحانه - ، فما أحراه بأن يتواضع، وينكسر أمام أشعة العظمة المطلقة التي تنسكب على مرايا عقله المشبوب وعواطفه المتوقدة وملكاته الخارقة؛ لتقول له–وهو الحاذق الفطن - :إنما أنت قطرة من بحر الخليقة الهائج الموَّار ، وحَبَّة ضائعة في مزارع أوخمائل الوجود العريض !
وكأني بالإنسان في لحظات غروره العنيف يشبه الطفل الفطيم وهو يَتنمَّر بين يدي أمه وأبيه ويتعاظم ،" ويَجْنَح إلى الطغيان " ! فيحنوان عليه بموفور الشفقة، حتى إذا استمرأ " الطغيان" أُمْسِك– رحمة به– بلطف فيتوقف ثم يبدأ البكاء فور تلقي مراكز إداركه الغَضِّ رسالة تقول: أنت تحت السيطرة ! وهكذا يعاملنا الله تعالى وهو أرحم الراحمين ، وانظر إلى هذا التنبيه اللطيف في الرسالة الموحية الناضحة بالمعنى لمن تسول له نفسه التكبر والخيلاء ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا )
آه !! ما ألطفه وأقساه في آن واحد، فما ألطفه على من يتلقونه بقلوب مؤمنة راضية مزدجرة، وما أقساه على أولئك الذين يباشرون الاختيال والعنجهية عن عمد وسبق إصرار ، متناسين مراكز الضعف العميق – في ذواتهم المهزوزة - إذتغمرها آلاء الحكيم الخبير !
ورغم هذا الإِباقِ المنكَر فإنهم يبقون عبادا ضعفاء يصدرون عن طفولة في العقول وسذاجة في الإدراك وجهل في المعارف والأخلاق، ومن ثم تبقى يد القدرة الرحيمة تتلطف بهم وتحنو عليهم، وتعرضهم على المواقف والأحداث والتقلبات لعلهم يَذَّكَّرون، تنقلهم من حال إلى حال ومن طور إلى طور؛ في الأعمار ، والأزمنة ، والأوطان ، والأحوال ، بسرعات متفاوتة وإيقاع منتظم ، حتى إذا عجزوا عن الانتباه أتتهم هزة خارجة عن المألوف – من هنا أو هناك - لعلهم يرجعون ..!
ذاك كله من أجل أن يحددوا بَوْصَلة العقول وينزعوا الأكْبالَ عن أجنحة القلوب كيْ ترِفَّ إلى بارئها الحكيم سبحانه !
في كل يوم يُعرض عليهم سطرٌ من صفحة المُلك المطلق ، والتفرُّد الرهيب
وانظر إلى هذا المثال :
ترى ذلك الإنسان القوي المشدود الخلقة الموفور الطاقة والنشاط المتدفق الجاه والمال والسُلطان ، وهو يتوسط أتباعه وأشياعه ويهجم على رغائبه من لذائذ الحياة ومتع الأرض صنوفا وألوانا ، دون أن يعكر صفوه مُلِمٌّ عارض أو آفةٌ نازلةٌ، وارقبه خلال يوم كامل وهو يتقلب في أنعم الله كما يشاء ، فإنك ستراه قد بدأ يَذْوي وينكسر وتَذْبُل طاقته ويريد الهروب من لهب الحياة المتأججة إلى ما يشبه الموت الناعم .
أجل! إن مخزون الطاقة لديه لا يمكنه من مواصلة الحياة بدون أخذ جرعات من الموت " الْمُقَّطَّرْ" ، حتى يكون قادرا على الاستمرار !
ومن رحمة الله أن ينشر عليه – وعلى الخلائق – كل يوم أجنحة الليل وأديم الظلام حتى يغط الكون في نوم عميق يخلد فيه العظماء والقادة وكبار ذوي الشأن من أهل الأرض إلى الراحة؛ بأخذ قسط من الموت (والله يتوفى الأنفس حين موتها )، وتُسلم الخلائق أرواحها إلى الله لا تلوي على شيء، وكأنها قطعة من مشاهد الآخرة تمُر بنا ما بين كل شروقين أو غروبين ، ويبقى الملك لله الواحد الأحد؛ لا أحد يدعي منازعته إياه ؟ وكيف ، وهو ما يدري أتعاود روحه جسده أم تواصل الرحيل! حتى إذا أذن الله لساعات الظلام بالانقضاء بدأت مملكة الظلام في الانسحاق تحت أشعة الصبح
لتخرج الخلائق من مراقدها تَنسِل إلى الله مع مطالع الفجر ، يتردد على مسامعها هتافُ
الكون العظيمُ : ( أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا شريك له لا إله إلا هو وإليه النشور