خطوط الجهد العالى بموريتانيا .. هل تأكل المشاريع صانعيها؟ (تقرير)

يواجه الرئيس الموريتانى السابق محمد ولد عبد العزيز وبعض أعضاء حكومته والعاملين معه (وزير الاقتصاد المختار أجاي ووزري الطاقة محمد سالم ولد البشير ومحمد ولد عبد الفتاح و مدير شركة الكهرباء المرخي ) تهمة التفريط فى مصالح الدولة الموريتانية وعقد صفقات غير قانونية من قبل اللجنة البرلمانية وبعض ضباط الشرطة المكلفين بالتحقيق الجارى تحت إشراف وكيل الجمهورية، بعدما جلبوا أو استجليوا ، ونفذوا أكبر مشاريع الطاقة الكهربائية الموجهة لمدن الشمال مصدر الثروة المعدنية (نواذيبو.. أكحوجت .. أطار .. ازويرات) ، ضمن خطة حكومية كانت تهدف بالأساس - كما يقول معدوها- إلى توفير الكهرباء لمدن الإنتاج بموريتانيا، ووضع حد للعجز الذى أتسم به قطاع الطاقة منذ استقلال البلاد عن باريس ١٩٦٠.

(*) من منجز تاريخى إلى أروقة القضاء

فى الرابع والعشرين من نوفمبر ٢٠١٧ وقف وزير الطاقة السابق محمد ولد عبد الفتاح أمام حشد من الأطر والسكان بمقاطعة توجنين (شارع عزيز) معلنا ما تحقق من مكاسب فى مجال الطاقة خلال الفترة مابين ٢٠٠٩ و٢٠١٧ ، وسط فرح عارم بين كبار المسؤولين، الذين يلاحقه بعضهم اليوم بتهمة التفريط فى مصالح البلاد الإستراتيجية وخرق القوانين المحلية.

قال الوزير محمد ولد عبد الفتاح - وهو ينظر إلى الرئيس السابق وكبار معاونيه من خلف نظاراته السوداء " لقد تمكنت موريتانيا من تحقيق تحولات كبرى أمنت الانتقال من حالة العجز في الكهرباء إلى وضعية تحقيق الفائض من خلال مضاعفة القدرة الإنتاجية للكهرباء سبع مرات في أقل من سبع سنوات، وتم تعزيز وتوسعة شبكات التوزيع القائمة من أجل تأمين تغطية أشمل للمراكز الحضرية بنسبة 147 بالمائة".

وقال الوزير إن تلك الجهود مكنت " من مضاعفة عدد المشتركين إلى 260 ألف مشترك بعد أن كانوا لا يتجاوزون 107 آلاف سنة 2010، مؤكدا أن نسبة التغطية الكهربائية في الوسط الحضري التي كانت لا تتجاوز 55 بالمائة سنة 2010 وصلت إلى 73 بالمائة سنة 2017، علاوة على الجهود التي بذلتها الدولة من أجل استغلال الطاقات المتجددة والنظيفة".

كان الوزير الشاب يتحدث بثقة كبيرة عن مستقبل الطاقة بموريتانيا وهو يشرف صحبة رئيسه االسابق على تدشين محطة كهربائية جديدة بطاقة ٥٠ مغوات، بتكلفة بلغت 19 مليارا من الأوقية بتمويل مشترك بين الدولة الموريتانية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.

وقبلها بيومين فقط كان الوزير ذاته يدشن رفقة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ورئيس المنطقة الحرة محمد ولد الداف محطة جديدة ببلدية بلنوار بالعاصمة الإقتصادية نواذيبو، وهي محطة كهربائية هوائية بقدرة 100 ميغاوات وبتكلفة تزيد على خمسين مليار أوقية وبتمويل مشترك بين الدولة الموريتانية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.

شعر الوزير محمد ولد عبد الفتاح والتولفة الحكومية عموما بأن البلاد دخلت عصر الطاقة الكهربائية، وأن مشكلة الإنتاج تم حلها بالكامل، وتضاعفت الضغوط على القطاع من أجل تأمين خطوط التوزيع، بعدما باتت جمهورية مالى والسنغال أكبر مستفيد من الوضع الجديد فى ظل عجز البلاد عن تأمين حاجة مواطنيها مما تنتجه محطاتها المتعددة (شراء الكهرباء الموريتانية من قبل الجيران تجاوز ٢٣ مليون دولار خلال سنتنين).

(*) هل من تمويل جديد؟

توجهت الحكومة الموريتانية الى شريكها الأبرز، المملكة العربية السعودية من أجل تأمين تمويل مستعجل لخطوط الكهرباء الرابطة بين نواكشوط نواذيبو، كانت الموافقة السعودية سريعة ولكنها مشروطة بتولى شركة سعودية تنفيذ المشروع، وهو مارضخت له الحكومة الموريتانية بحكم الحاجة الملحة للمشروع من جهة ، وبحكم علاقات الثقة بين البلدين من جهة ثانية.

وافقت السعودية على دفع ١٤٧ مليون دولار لشركة هندية فازت بالصفقة المذكورة، وبعد جدل كبير شرعت الشركة فى اتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ المشروع مع الشريك السعودى الذى كان غير مؤهل لإدارة مشروع بهذا الحجم الكبير.

وبعد أخذ ورد وقع المدير العام للشركة الموريتانية للكهرباء محمد سالم ولد أحمد (المرخى) مع الحسن معتز بالله القشقجي مندوب تجمع من المقاولين السعوديين والهنود (ان بي ف بي ان كوسي تي ا جي بي سي ال أه اس بي ال) على صفقة لانجاز الجزء الأول من مشروع بناء خط الجهد العالي بين مدينتي نواكشوط ونواذيبو.

ولخص دحان ولد الطالب عثمان مستشار المدير العام للشركة الموريتانية للكهرباء الهدف من المشروع بالقول إن هذا الخط (البالغ طوله 510 كلم والممول بالتعاون بين الدولة الموريتانية والصندوق السعودي للتنمية بغلاف مالي يبلغ 51553257762 اوقية) يهدف إلى تأمين التغطية الكهربائية بين المدينتين.

وبحسب الاتفاقية فقد تقرر أن يساهم الخط المقرر إنجازه خلال عامين في تثمين المقدرات الطاقوية من غاز وطاقات متجددة هوائية وشمسية، ضمن المخطط المعتمد من طرف الشركة في نفس الاطار والهادف إلى انجاز محطة هوائية بقدرة 100 ميكاوات فى بلنوار يجري العمل فيها بعدما وضع الرئيس الحجر الأساس لبنائها ٢١ نوفمبر ٢٠١٧.

دخل عدد من رجال الأعمال على الخط، واقنعوا رجل الأعمال السعودى المذكور بأن التكلفة غالية جدا، وأن الشركة الهندية يمكن الاستعاضة عنها بشريك آخر، وتحدث البعض عن دور يمكن القيام به عبر بعض دوائر استغلال النفوذ بموريتانيا.

وضعت الشركة ضمانة بنكية بالبنك القطرى العامل بموريتانيا، وانتظرت ستة أشهر من أجل تلقى الدفعة الأولى من التمويل السعودى لبدء العمل فى المشروع دون جدوى. كانت الرئاسة الموريتانية تتابع الأمر عن كثب، وتضغط من أجل حلحلة الأمر مع الشريك السعودى بأسرع وقت ممكن، ولكن عرقلة الوسطاء كانت أكبر من جهود الجميع.

وصل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز إلى قناعة بأن الطرف السعودى يبتز الشركة الهندية من أجل فسخ العقد معها ، وأن الأعمال تأخرت بشكل كبير (أكثر من ستة أشهر) ، وأبلغ الشركة الوطنية للكهرباء بضرورة إلغاء الصفقة فورا، ورفض التمويل السعودى، وتطبيق القانون الموريتانى بمصادرة المبلغ الذى طرحته الشركة الهندية كضمانة لجديتها فى تنفيذ الأعمال.

قاومت الشركة الهندية القرار، ودقت كل الأبواب من أجل الحصول على أموالها المصادرة بعد تخليها عن الشريك السعودى، وعرضت على الحكومة الموريتانية تنفيذ الأعمال فى حالة وجود شريك آخر، وبتكلفة أقل، وهو ماتم لاحقا عبر الاتفاق على تنفيذ المشروع بمبلغ ١١٠ ملايين دولار فقط، اثر تفاوض أستمر أكثر من شهر بقيادة الوزير محمد ولد عبد الفتاح وبحضور مجمل معاونيه.

(*) تمويل وتنفيذ هندى

وزير الاقتصاد والمالية المختار ولد أجاي وقع بعد الاتفاق مع المديرة العامة لبنك تشجيع الصادرات الهندي حرشه بانكاري على اتفاقية يقدم بموجبها البنك المذكور لموريتانيا قرضا بقيمة 110 ملايين دولار، أي ما يناهز 39 مليار أوقية مخصصة لتمويل خط كهربائي عالي الجهد بين مدينتي نواكشوط ونواذيبو.

وبحسب تصريح الوزير على هامش الاتفاق فان الخط سيمكن من دمج الشبكات القائمة في شمال البلاد وجنوبها ونقل فائض الانتاج إلى مناطق الاستهلاك بالاضافة إلى فتح آفاق جديدة لربط الشبكات الكهربائية في المغرب العربي وأوروبا بنظيراتها في منطقة استثمار نهر السينغال مع التزويد المنتظم لمدينتي الشامي وبلنوار الواقعتين على مسار الخط بطاقة كهربائية رخيصة ونظيفة.

وقال وزير الاقتصاد والمالية ساعتها إن هذا التمويل يعكس الثقة المتزايدة التى تحظى بها موريتانيا من لدن شركائها في التنمية كنتيجة مباشرة للرؤية التنموية التى تحققت بفضلها انجازات هامة شملت فك العزلة وتثمين الموارد الوطنية وتقريب خدمات التعليم والصحة والماء والكهرباء وغيرها والتى لاقت إشادة وتثمين الشعب الموريتاني والشركاء في التنمية.

وأضاف الوزير أن التوقيع على هذه الاتفاقية يشكل لبنة هامة في صرح الشراكة الواعدة التى يتطلع الطرفان إلى تطويرها وتعميقها مستقبلا لتكون على مستوى تطلعاتهما المشتركة وذلك بالتقاء القدرات التمويلية والفنية الكبيرة في الهند مع فرص الاستثمار المتنوعة والكثيرة في موريتانيا.

(*) تراجع سعودى جديد

بعد أشهر من انطلاقة الأعمال فى المشروع الجديد، شعرت المملكة العربية السعودية بالحرج ، وبأنها فرطت فى حليف كانت تراهن عليه فى الغرب الأفريقى، فأبرق الملك سلمان ابن عبد العزيز إلى الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز مؤكدا استعداد السعودية لتمويل مشاريع تنموية جديدة بموريتانيا، وخصوصا فى مجال الطاقة والكهرباء ، للتكفير ربما عن الخطأ الذى أربك العلاقة بين البلدين لفترة طويلة.

عرض الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وحكومته تمويل خط الجهد العالى الرابط بين نواكشوط وتيرس الزمور، وهو ماوافقت عليه السعودية بشكل سريع.

وفى السابع والعشرين مايو ٢٠١٩ وضع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، بمدينة اكجوجت الحجر الأساس لبناء خط كهرباء عالي الجهد بقدرة 225 كيلوات وبطول 670 كيلومتر، للربط الكهربائي بين مدينتي نواكشوط وازويرات مرورا بمدن أكجوجت وأطار.

وتتمثل المكونات المشروع – الذي يعد من أكبر المشاريع الانمائية الطاقوية في البلد- في بناء خط جهد ٢٢٥ كيلوات يربط بين نواكشوط واكجوجت بطول ٢٤٨ كيلومترا، وآخر بنفس الجهد يربط بين اكجوجت وأطار بطول ١٧٥ كيلومترا ، وخط جهد بنفس القوة يربط بين أطار وازويرات بطول ٢٤٧ كيلومترا وخط جهد ٣٣ كيلوفولت بطول ٣٩ كيلموترا لتزويد مدينة أطار بالطاقة الكهربائية.

وتبلغ الكلفة الإجمالية للمشروع أربعة مليارات و٧٣٠ مليون أوقية جديدة بتمويل مشترك بين الدولة الموريتانية والصندوق السعودي للتنمية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.

غادر الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وأعضاء الحكومة أكجوجت فى انتظار اكتمال حلقات المشروع، وحل اشكال الكهرباء إلى الأبد بمناطق ظلت مجمل الاستثمارات فيها معطلة أو تكاد بفعل ضعف البنية التحتية، وظل سكانها يشكون " نهب الثروة " وضعف المنجز، بيد أن الخلافات السياسية حملت للوزير ورئيسه مالم يتوقعوه إطلاقا ممن كانوا حضورا فى المشهد بكل تجلياته خلال سنين التفاوض والتنفيذ ، أو كانوا يتمترسون خلف بعض أصحاب الحظوة ممن راهنوا على الخط الأول وخسروه ، ولم يجدوا فرصة للمشاركة فى الخط الثانى بحكم الظروف التى قادت إليه والجهد الذى يتطلبه السير فى ركاب المشاريع الكبرى، والشركات العابرة للحدود.