ضوء فى نهاية النفق /سيد أحمد ولد باب

فى سنة (1969) فقدت والدتى العزيزة " ميج بنت النان" ثلاثة من أبنائها وثلاثة من إخوتها، ووالدتها الغالية توت بنت سيد الأمين، بين "آجوير وأدويويره" بمنطقة أوكار فى أقل من أسبوع واحد .

7 أفراد من الأسرة دفعة واحدة بسبب مرض الحصباء  اللعين، بينما كان أقرب مركز للنجدة هو المركز الصحى بلعيون (143كلم)، دون أن تتمكن الأسرة من نقل مصابيها إلى المركز لغياب وسائل النقل بالمنطقة وانتشار المرض بين أفرادها، ناهيك عن استحالة وجود طبيب لديه الرغبة أو الإرادة لزيارة منطقة منكوبة بالكامل.

لقد كانت الخيارات جد محدودة، لبن الأغنام لغسل جلود المصابين بالمرض، والمياه الباردة من أجل مواجهة وباء لايرحم صغيرا ولايوقر أي كبير..

حادثة قد تفسر دخول الوالد أطال الله عمره سجن لعيون لاحقا لأسابيع،  حينما وجه شتائم قاسية لحاكم المقاطعة ساعتها وربما صفعه، بعد شتمه للطبيب الخلوق " حمادي أنيانغ" أمامه، وهو رجل جمعته به الموجة الثانية من الوباء الذى ضرب المنطقة أكثر من مرة ، ليمكث معه أكثر من شهر بمنطقة أوكار على حسابه الشخصى، من أجل معالجة ضحايا المرض ذاته فى المنطقة الواقعة بين " أبير الصكه وحاس أهل ألمين"، وهو ماحاول الطبيب تفسبره للحاكم، مؤكدا أنه من المستحيل أن يغادر منطقة منكوبة والضحايا بالعشرات، ولاتوجد أي وسيلة اتصال يمكنه أن يبلغ بها الإدارة عن تمديد إقامته بالمنطقة لهذه الفترة الكبيرة.

كان الحاكم يعتمد على وشاية مفادها أن الطبيب كان يجمع الماشية بمنطقة أوكار، وهو ادعاء كاذب حسب الوالد. فلم يزد الأمر على هدية شخصية منه لرجل لمس فيه التضحية والصدق،وأصر على مرافقته إلى لعيون، مع هدية رمزية مقابل جهوده الرائعة فى إنقاذ أرواح السكان (أربع آزوازيل من الإبل) ، لما تركه من ذكر حسن بالمنطقة  لايضاهيه شيء إلي اليوم.

لقد حمل بعض أبناء المنطقة اسمه كتعبير رمزى عن مكانته بين الناس، وعزز علاقته بالمحيط الذى كان حمادى أنيانغ أول شخص من مجموعة الفلان يزوره على الإطلاق، لقد كان صديقا للمنطقة ومنافحا عنها، وظل يزور الوالد باستمرار إلى أن أقعده البعد والضعف.

ظلت هذه الحادثة وأخواتها محفورة فى ذاكرة الكبار بحكم مرارة التجربة، وكان البحث عن مركز صحى بأكدرنيت هو الشغل الشاغل لأبناء المنطقة، و العمل من أجل تعزيز المركز الصحى بأم الحياظ (عاصمة البلدية) كخيار بديل.

فى منتصف  2016 كنت أستعيد بعض ذكريات الماضى خلال احدى ليالى الفراغ والوحدة بالعاصمة نواكشوط، وقادنى البحث إلى الكتاية عن أحد أعلام تكانت على وجه الخصوص، إنه المثقف والأديب والنائب أحمد ولد أج عليه رحمة الله.

أنهيت دردشة حول شخصية الراحل، ومدينة الرشيد الجميلة، وأعلام الفن والحلة وما آلت اليه الأمور بعد عقود من الكفاح من أجل التأسيس الثانى وتعزيز الإستقرار وفرض أركان مجد يقاوم كل عاديات الزمن.

كانت مجرد خواطر لعظيم لم ينصفه وطنه، ورمز لم يمنح من التقدير ماهو به جدير، ورسالة تقدير لمنطقة يجمعنى بها الكثير.

بعد يومين فقط وصلتنى رسالة من شخص لم ألتقيه قط، وان جمعتنا وشائج القربى، وباعدت بين والدينا صروف الدهر.

قدم نفسه بأسلوب مختصر وأنيق، وأعرب عن أمله فى التعارف عن قرب، وهو ما وافقت عليه دون تردد.

لم يكن الشخص سوى الإدارى الخلوق، والعمدة أحمد ولد أج ابن النائب سيد أحمد ولد أج - أطال الله عمره- ، وابن عم العمدة ساعتها محمد ولد أج، ابن النائب الراحل أحمد ولد أج عليه رحمة الله.

فى مكتبه بوزارة الصحة تبادلنا الحديث حول واقع المنطقة، وأبرز التحديات المطروحة أمامها،وحينما هممت بالإنصراف عرض المساعدة فى مايفيد سكان المنطقة بعد عرض قدمته عن واقع الناس، وكانت فرصة لطرح ملف نقطة صحية تنقذ أرواح ساكنة أوكار ، وتسد النقص الحاصل، وتلبى طموحا يتملكتى منذ فترة طويلة، وهو بناء مركز صحى باسم الراحلة " الوالدة توت بنت سيد الأمين" تخليدا لذكرى أبشع حالات العجز فى مواجهة الأوبة والإهمال من قبل صناع القرار.

لم يتردد إطلاقا- وتلك خصلة عرفتها لاحقا عنه- ، لقد حسم الأمر، هكذا أخبرنى بعد أن وضع سماعة الهاتف اثر تشاور سريع مع بعض معاونيه، وغادرت المكتب وقد فتحت صفحة ود وتقدير مع شخص من الأشخاص القلائل الذين يألفون ويألفون، لقد باتت لقرية أكدرنيت نقطة صحية، تعلاج كبار السن دون مغادرة مرابع الأهل، وتشكل أبرز ملاذ لضحايا الملاريا فى الخريف بمنطقة أوكار،  وإليها تشد الرحال فى الشتاء لعلاج الأطفال والنساء، وفيها يداوم طبيب خلوق، جمع بين تواضع الممرض المؤمن بمهنته، وابن شيخ الصوفية المحكوم بقيم تزيده مكانة فى النفوس (الهيبة ولد الشيخ الندى).

نتخذ من أحد بيوت الطين مقرا للنقطة الصحية، وعلى ضوء الهواتف نعالج الضحايا ليلا، ولكن نشعر بسعادة غامرة لحسم أبرز متطلبات الخدمة على بساطتها، وننتظر نتائج توجيه رئيس الجمهورية  محمد ولد الشيخ الغزوانى لأبرز أذرع الحكومة (تآزر) من أجل إنجاز مركز صحى بالمنطقة ، ولدينا ثقة كبير بأنه وعد غير مخلوف، وأن الضوء الذى انتظرناه قد أزفت لحظته، وسأكون سعيدا لو حمل الإسم الذى خططت لحمله، فمرارة رحيلها دون إسعاف هي وأولادها الستة فى أسبوع واحد كانت أبرز محرك نحو الحلم الذى أعيش من أجل تحقيقه.

(*) مدير زهرة شنقيط