علمت في هذا العيد بوفاة جارنا الكريم ووالدنا الرحيم *كاو موسى" صاحب الخلق الرفيع والكرم الأصيل.. تُوفي في اليوم السابع والعشرين من رمضان، عن نحو مائة عام رحمه الله، وأدخله في جنات رضاه.
نُودِيتُ إلى زيارة ذاتَ يوم من أيَّام السِّجن المُدلهمَّة الَتي يَصدُق عليها قول صالح بن عبد القُدُّوس في سِجنه:
إذا ما أتانا زائرٌ مُتفقِّدٌ..
فرِحنا وقُلنا جاء هذا مِن الدّنيَا
كانت الزِّيارة آنذاك في يوم واحدٍ من أيَّام الأسبوع ولِلَحظاتٍ تَمرُّ سَريعةً كأنّها سَيف مسلول, وكانت الزّائرة أختي, فنشرَت لي بَعضَ ما طواه السِّجن عنِّي من أخبار تعشق الأذن سماعَها, وجاءتني بِبعض الزَّاد للسَّفر في سَباسِب السِّجن الموحِشة, كان فيه شايٌ وسكَّرٌ وأشياء أخرى تَطرد بعضَ هَوَامِّ السِّجن البَهيم.
قلتُ لها: لِمَ جلبتي الشَّايُ والسُّكّر وما زالت عندي منهما كفاية؟
قالت: لقد أرسلهما إليك كاوْ مُوسى, وقد جاء للزِّيارة وليس عنده إذنٌ قضائي, فرجع بعد أن اكتَوَى بِحُرقة الانتِظار.
كاوْ موسَى.. يتذكَّرُني ويسعى لزيارتي وأنا متَّهم بتُهَم ضِمن "قانون الإرهاب" ترتَعد فرائصُ كثير من النَّاس لسماعها..!! ما أعجبَه!!
ذُقتُ في ذِكراهُ لي طعمَ الصِّدق, واستَنكهتُ من شايِه نَكهةَ الوَفاء, ووجدتُّني أردِّد مع عيسى بن البُحتريِّ قولَه:
جزى الله رَبعَ السّجن عنِّي كَرامةً..
وأَخْلى ببُعدي عن حِماه مَكانِي
فإنّ له حقًّا عَليَّ لأنّني..
كَشفتُ به أَهلي وصَحبي وإخوانِي
كاوْ مُوسَى كما نُسمِّيه (كاوْ معناها الخال بالبولارية) جارٌ لنا مُسِنٌّ كريم ذو بشاشة, عهِدنا رحمتَه بنا صِغارا ونحن نَلعبُ في سِكَك الحيِّ وأزِقَّته, وصاحبَنا تواضُعه بعد ذلك في رِحاب المساجد, وفي أفنية الدُّور, يَفوح منه عَبقٌ مِن عَهد لكصرَ القديم, أيَّام كانت بين الجيران صِلة أطيبُ من الأمن, وبين أهل الحيِّ تعارُفٌ وأُلفة لم يَنعِق في فضائها غُرابُ العُنصرية والفُرقة النَّاعق اليوم في كُلِّ فضاءٍ وفضائية, إلاّ مَن رحِم الله.
وبمناسبة كل عيد وقبل أن تَشدَّ أيَّامُه رَحلها للرّحيل, ورغم تلاقينا وتبادُلنا التَّهانئ والتَّحيَّات عندَ داره وفي المسجد, يأبَى كاوْ موسى إلا أن يأتيَنا في المَنزل ليتردَّد على الجميع كبارا وصغارا مسَلِّما ومُهنِّئا, ثمَّ يقول: بالبولارية "يافُومِي" وبالحسَّانية "سمْحُولي" وبالولفية "بالَّيْنْمَ أَقّْ" في تواضُع ولَباقة وأريحية أخفَّ من ريش النَّعامة.
كان لا يَهجُر لغتَه بل يُحدِّثنا بها وينشرها اعتِزازا ولو كنَّا لا نُحسِنها, ولا يبخَس لسانَنا قَدرَه بل يُكلِّمنا به تكرُّما وإن تعثَّر فيه, ولا يمتنع مع ذلك مِن النُّطق بلسانٍ آخر نُحسِنه ويقرِّبُنا مِن بعض, وكان يَرسُم بقوله وفعله لوحةَ وحدة فريدة, يُرصِّعها تنوُّع باهر, وعلى كلِّ ذلك لَمَعانٌ مِن نور "لِتَعارَفوا"
تُوفيَ قبل هذا العيد بثلاثة ايام.. فغبَّنا فيه وبلُُ أخلاق تنبت به المحبة والإخاء.
أنزل الله عليه سحائبَ رحماته، وادخله في روضات جناته.. أعزي في وفاتِه أسرته الكريمة وجميع اهله وسُكان الحي وجماعة المسجد، أحسن الله عزاءهم وعظم جزاءهم.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد سالم المجلسي (*)