يعيش قطاع التعليم العالى بموريتانيا على وقع سلسلة من الأزمات المتلاحقة، بفعل سوء التخطيط، والجفاء بين كبار الفاعلين فيه، وضعف الجهاز التنفيذى المكلف بتسيير القطاع منذ انتخاب ولد عبد العزيز رئيسا لمأمورية جديدة.
نهاية اغشت 2014 كانت الملامح تشير إلى تشكيل الرئيس محمد ولد عبد العزيز لوزارة جديدة بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، وكانت أسماء الداعمين له تترى، بينما كان بعض النافذين من محيطه الاجتماعي أو السياسى يدفعون برموز جدد للواجهة، نكاية بخلفياتهم السياسية أو عقدا لتحالفات جديدة فى المناطق التى ينتمون إليها.
كان مدير الحملة سيدى ولد سالم من بين الأسماء الجديدة التى تم الزج بها فى الحكومة المعلنة يوم 21 أغشت 2014 بعد أن كلف بتسيير جزء من الحملة ابان الرئاسيات الأحادية فى نظر المعارضة الموريتانية، مستفيدا من دعم رجل الدولة القوى الشيخ ولد بايه، وسابقة فى تكتل القوى الديمقراطية المعارض شابها الكثير من الغموض، منذ أن كلف سنة 2009 بادارة ملف المالية فى حكومة الوحدة اثر اتفاق العاصمة السنغالية دكار.
كانت مجمل التكهنات تشير إلى تحول فى الوعى السياسى للرئيس، على أساس اختياره لشخصية سياسية كانت إلى وقت قريب تنادى بالإصلاح، وتضغط من أجل الشورى، وتناضل مع "المحرومين" من أبناء البلد بغية فرض العدالة والمساواة.
لكن الأسابيع الأولى حملت الكثير من الرسائل السلبية للنخبة المهتمة بالتعليم العالى، وحملت الأشهر اللاحقة صدمة كبيرة لمجمل النقابات الطلابية، بعد أن تحول الرجل من "مقاتل" من أجل الحرية، إلى مندفع من أجل تكميم الأفواه والانتقام من الماضى بكل تفاصيله المحزنة، مستفيدا من دعم الرئيس لوزرائه الجدد، والنظرة التى نجح ثنائي التأزيم داخل قطاع التعليم (اسلكو +باهية) في اقناع الرئيس بها، من أجل خلق قاعدة لهما داخل نخبة ظلت إلى وقت قريب تتعامل معهما بقدر كبير من الدونية وصرف الأنظار.
اتخذ سيدى ولد سالم قرارات سريعة بتعيين أمينة عامة جديدة من نفس الكلية، ومدير للتعليم العالى من نفس التوجه، وكانت مجمل قراراته "التمييزية" مصدر ازعاج للأساتذة والطلاب، الذين تعاملوا معه كأحد رموز الانتقام المكشوف بأدوات السلطة، ضمن توزيع للأدوار تمارسه النخب الانطوائية، وخصوصا أوقات ضعف الأنظمة أوفى الملفات المجهولة من قبل حكام البلاد الفعليين.
قطيعة كاملة
دخل وزير التعليم العالى الجديد سيدى ولد سالم فى قطيعة كاملة مع الطلاب والأساتذة والنقابات النشطة فى الجامعة، وأحاط نفسه ببعض الرفاق المستفيدين من خلق واقع جديد، تنمو فيه الزبونية على حساب المصلحة، وتأخذ الألوان فيه مكانها بدلا من الكفاءة والعدل فى منح الفرص للعاملين فى القطاع.
كانت سنة سيدي ولد سالم الأولى حافلة بالمشاكل بين الطلبة وجامعة العلوم والتكنولوجيا التى ينتمى إليها، وانخرط الرجل فى صراع "مكيه" والطلاب، ضمن تحالف يستحضر التاريخ أكثر من المستقبل، وينحاز فيه صناع القرار للأقوى بدل صاحب الحق المستضعف. لقد تحولت مؤتمرات الحكومة إلى ساحة لاستعراض الخطابة، وتحول سيدى ولد سالم من مثقف "تحررى" تهفو الأجيال إلى فعل يسجله التاريخ له، إلى وزير "رجعى" منغمس فى الخلافات الضيقة حد الانحياز للعميد والبواب على حساب الأستاذ والطالب.
ومع فضيحة المنح والتزوير الذى شابهما، نجح الوزير فى اقناع أعضاء الحكومة بمرسوم يستبعد الطلاب من تشكلة اللجنة المكلفة بالمنح، امعانا فى تقديس حكم الفرد وقتل الشفافية التى كانت أبرز شعارات الرئيس، كما نجح فى طرد آخر عناصر الثقة لدى الطلاب بالوزارة، مكملا حلقة الانتقام من كل الذين ضايقوه طيلة مشواره بالكلية أو كانوا أكثر حظوة لدى صناع القرار منه، وأكثر تقديرا لدى الطلاب.
تحولت الجامعات إلى مصالح تابعة للقطاع، تملى عليها الأوامر، دون مراعاة للاستقلالية الإدارية والقانونية والصبغة الأكاديمية، والروح التى يجب أن يعامل بها جيل الأمل المنشود. فأعطيت الأوامر بنقل الجامعة للمركب ولما يكتمل من أجل تسجيل ظهور أمام الكاميرا، والفخر بانجاز مول فى عهد ولد الطايع، وبدأت الأعمال فيه ابان حكم ولد الشيخ عبد الله، وتعثرت الدراسة فيه خلال مأمورية ولد عبد العزيز، وقد تكتمل الأشغال فيه خلال مأمورية رئيس آخر.
رفض الوزير التعامل مع نقابات التعليم العالى بعد أن عاش فى الجامعة خارج مكاتبها التنفيذية رغم نشاطه السياسى بحزب التكتل أبرز أحزاب المعارضة، فالنقابة الأولى بنظره محسوبة على الإسلاميين وبعض القبائل، والثانية صنيعة اسلكو ولد أحمد ازدبيه ورفقيه فى النظرة والمسار والخاتمة غير السعيدة أحمد ولد باهية.
كما فشل الوزير فى التواصل مع النقابات الطلابية، وعجزت الجامعة فى عهده عن تغيير طواقمها الإدارية، وباتت تسير بالإنابة، كما هو الحال فى كلية العلوم القانونية والاقتصادية، حيث يحتاج العميد للانتخاب والأقسام للتجديد، وترفض الوزارة أى تغيير خوفا من مستقبل هم أبعد الناس عن التحكم فيه.
لقد بدت صورة التعليم العالى خلال الأشهر الأخيرة مهزوزة، وبدت الثقة فى الوزير محل نظر، وضجر النظام من كثرة تبريراته، وباتت نذر الشرارة داخل القطاع قاب قوسين أو أدنى فى ظل نزول الطلاب للشارع، وتلويح الأساتذة الأحرار بالإضراب، وتلمس الآخرين رقابهم وهم يوازنون بين منصب كسبوه ابان ولد إزدبيه بشق الأنفس والصف، وكرامة تحتاج قدرا من التضحية والانحياز لمصلحة البلد لإنقاذ قطاع ينهار.