المعاصرة حجاب...والخصومة حجاب أشد كثافة...و المنافسة العاطلة عن الموهبة، فوق أنها تحجب بداعية العجز، فهي توغر الصدور و تتنقص ما يمكن أن يتاح لإنسان من فضائل و من نسب لفعله بالمجد. و حين تسقط كل هذه الحجب جميعا ( إلا الحجب المتأتية من قلة النباهة فهذه لن تسقط أبدا) سيبرز وجه الشيخ حسن الترابي عليه شآبيب الرحمة من ربه، سيبرز وجهه وضيئا في تاريخ السودان عالما و سياسيا و خطيبا ..عالما قام بفريضة التفكير كما لم يقم بها سياسي في هذا البلد. وسيتربع اسمه في دفتر التاريخ السوداني و الاسلامي كواحد من قلة خاضوا غمار الحياة بلا مهابة و اجترأوا على قوالب التفكير السائدة و عاداته و دخلوا قلاع النصوص ينخلونها نخلا بعلم و كتاب منير.
واحدة من اشكالات التاريخ الماثل وقائع بين أيدي الناس أنه لا يحسن النظر و التأمل فيه و لا درسه الا حين يصفو من كدر الخصومات و ضغط الأحداث على الفاعلين و على الشاهدين عليها بالحق و بغيره. وحين يصفو كدر السياسة السودانية من التلاحي و الخصومات و الكيد فلن يجد الناظرون في التاريخ رجلا كان له من الأثر في تاريخ البلاد ما كان للترابي, وهو أثر امتد الى خارج السودان فألهم عقولا و شحذ همما فكم من منبر في العالم الاسلامي احتفى به وأنزله منزلته من الإكبار و الإجلال وكم من شيوخ استكثروا عليه كسبه في التدين و الحياة فكادوا له لما دخل عليهم نصوصهم و استفزهم الى تأمل جديد في الدين يرده الى الحياة فيكون منها و تكون منه.
لم يكن الترابي عالم دين وحسب و لا كان فقيها قانونيا و لا كان سياسيا غارقا في السياسة بل كان كل أولئك جميعا.
الذين أكبروا علم الترابي تمنوا عليه لو أبقاه بعيدا من دنس السياسة ( هكذا يرونها ولعلها في كثير من شؤونها كذلك) و الذين أعجبهم جلده السياسي و قوة شكيمته وشدة ضرابه خصومه وددوا لو أنه قابلهم بكلام في السياسة لا دين فيه و لا محاججة به. وهنا تحديدا يأتي أثر الترابي الذي لن يمحي في الحياة السودانية و هو طلبه الذي وهبه عمره كله و المتمثل في رؤية الديني في الدنيوي و رؤية الدنيوي في الديني في علاقة لا يقوم فيها واحد دون الآخر. و هذا معطى جديد في السياسة السودانية خرج بها من حالة التكسب السياسي من تجارب انتجتها ظروف بلدانها فضلا عن عقول أهلها.
ميزة الترابي أنه لم ير بأسا من عراك الدين أو قل التدين بالحياة و لم يتهيب كثير الأذى أو قليله المترتب عن نزع ( الإكبار الكهنوتي) عن (شيخ الدين). ذلك عنده ثمن لابد من دفعه إذا أردت أن تكون في متن الحياة لا هامشها. (هذا المسعى كان و لايزال و سيبقى مبذولا للألسن و الأقلام تتناوله إما حامدة له أو منكرة بغليظ القول. ولأنه كذلك فسيبقى بابا في السياسة جديرا بالبحث و التأمل.
أخشى ما أخشاه أن يفرح خصومه بموته و أخوف ما أخاف أن تستبد بخصومه نشوة ظفر بغيابه لا يد لهم فيها فقد ترجل فارس حلبة السياسة السودانية حين جاء أجله الذي لا يتقدم و لا يتأخر تاركا وراء إرثا و علما سيكون أطول و أبقى من أعمار شانئيه و أحلاما سيكون لها من علمه مدد أي مدد.
تقول هل أخطأ؟ و من من الناس لم يخطئ؟ فأيكم سينصب له موازين الحساب و ما في صحيفته خطأ أو خطيئة؟ الحمقى وحدهم يفعلون ذلك و من يصدرون عن نفوس سقيمة شحيحة في انسانيتها.
اللهم تقبل عبدك حسن في الصالحين و أدخله في زمرة الصديقين و تجاوز عنه و اغفر له إنك رؤوف رحيم و لآله و عارفي فضله و علمه في العالمين جميل الصبر و حسن التعزي."