لماذا نضيع فرصة "مان شاري كازوال"؟

تعـْـبر موريتانيا منذ عقود مجالا واسعا من المخاطر، رمتها في وهجه عدة عوامل، بعضها مرتبط بالموضِع، وبعضها مرتبط بالموقع، والبعض الآخر مرتبط بالمصادر البشرية، بينما ظل دور السلط بدائيا في تحريك دفة السياسية  وتوجيه البلد. وتعد العوامل المرتبطة بالموضِع عوامل طبيعية، مثل: المناخ وجغرافية الأرض.

 

ولقد جعل ذلك من البلد  بلدا منكوبا بالأساس، إذ تلاحقه لعنة الجغرافيا حيث يقبع ثلثاه في صحراء قاحلة، ويعرف، من كل أربع سنوات قحط، سنة واحدة معتدلة، ويواجه جائحتي التعرية والتصحر والمناخ المتبدل باستمرار نحو الجفاف. أما العوامل المرتبطة بالموقع فهي أساسا مستوى التأثير والتأثر بالتغيرات الإقليمية والعالمية الكبرى في ضوء التحديات التي تواجه منطقتها والعالم، أو ما يعرف بـ"الموقع الجيوبوليتيكي" حيث اندمجت في منطقة تتجاذبها الأحداث والتحديات، وصارت معنية بكسب الرهانات فيها؛ سواء بالنسبة للساحل والصحراء، أو لقضية الصحراء الغربية، أو بالنسبة للتحديات الثلاثة الكبرى: الجريمة المنظمة، الإرهاب والهجرة السرية. وقد عرفت موريتانيا بالخصوص وضعا خاصا تجاه تلك التحديات، إذ شُيدت فيها - في الآونة الأخيرة- صروح عميقة لإستقبال وتصدير المخدرات تُتهم جهات "عليا" بتوفير الحماية لها وتوقيف مسار تقاضيها باستمرار. كما ظلت مقرا للمهاجرين الفاشلين في العبور إلى أوروبا، بينما تعرف عداءً مزمنا مع الحركات المتطرفة التي تحتل جزءا مهما من الصحراء المتاخمة لأرضها على طول 2000 كلم. أما دور المصادر البشرية فهو سلبي ومعيق إذ أن غالبية المجتمع كسولة ومتخلفة عقليا وفكريا بالنسبة لبناء الدولة ورفع تحدي  البقاء، مع الهشاشة التي تلازم وضعها الإجتماعي.

 

كما يعد من النتائج البارزة لسياسات الأنظمة المتعاقبة الفشل في تحقيق أي نجاح  حاسم في بناء التقدم والإستقرار. وقد أدّى ذلك الفشل بأن صار التراكم  محدقا بالبلد على قاعدة النزاعات والتوترات الإجتماعية والاختناق الأمني والإقتصادي الواعد بالتخلف المستمر. وفي جو كهذا انبجس النظام الحالي بمعجزة تاريخية  دون أن يكون ضمن تطلعات الشعب، بل ظل يفتقر لأية ميزة إيجابية ذات دلالة بالنسبة لهذا الوضع ، وبصفة أوتوماتيكية انبرى يَحْكُم البلد بقبضة قوية مصحوبة  بقلة الفطنة وبسوء التقدير والإدراك،  وأكثر من ذلك بوضع اليد الطولى على كل الموارد مع توق كبير لأفراده بالتملك ، ولهذا لم تكن المهمة الاساسية أو الحقيقية الشعارات المرفوعة على الرأس ،و عليه لم يكن جهاز الدولة يعمل  وفق مخطط أو رؤية للانقاذ  بل لم يرد له ذلك بتاتا ، وهكذا تطورت المشاكل بنجاح في جعل الأزمة الإقتصادية طافحة  حيث تم -لأول مرة- سحق طبقات المجتمع الثلاث في آن واحد: طبقة رجال الأعمال التي هاجرت بأغلب أعمالها إلى الخارج بسبب سيطرة طبقة طفيلية غير متعلمة من جنس النظام، وهروبا من كابوس الضرائب، والطبقة الوسطى التي انحدرت إلى مستوى عتبة البقاء، وطبقة الفقراء التي تعيش تحت ذلك بكثير وتكاد لا تكسب  قوتها اليومي وبشكل غير منتظم. إن مما يكدر أي تنبئ بالإنفراج أن الأزمة الإقتصادية عاشها البلد أثناء  فترة الرخاء التي مر بها إذ حافظت الرواتب على جمودها، وتدنت القدرة  الشرائية، مع انعدام مناخ مواتٍ للأعمال وتصاعد مستمر للأسعار وبقاء سعر المحروقات، وبالخصوص كازوال، معلقا في السماء عند نفس النقطة منذ سنتين.

ولأن المازوت يمثل نقطة ارتكاز بالنسبة لسلسة الأسعار، بدءا بنقل المواد الاستهلاكية والمنتجات، مرورا بالنقل الحضري، وصولا إلى فاتورة الكهرباء، فيمكن أن يكون  في نفس الوقت السبب والتجلي الأكثر بروزا لأي انفجار محتمل. لقد ارتفع سعر هذه المادة في سابقة من نوعها 45  مرة أو تزيد خلال 5 سنوات في البلد. وفي سنة 2014 وحدها ارتفع 14 مرة مضيفا 100 أوقية كزيادة إجمالية على اللتر الواحد حيث انتقل من 280 أوقية  سنة 2008 إلى  384 أوقية سنة  2015. هذه الزيادات الجنونية لم تعبر عن أية معطيات موضوعية محليا أو عالميا. وقد أثقلت كاهل المواطن  بشكل أقر المعناة وسط عامة الناس. ولأنها لم تتأثر بتراجع سعرها، بل بالإنكماش الذي حصل لسعرها عالميا من 170 دولار إلى 23 بل 20 دولار للبرميل،  مثل نفط الكويت، فإن الحكومة -في دفاعها المخجل عن هذا القرار- تظهر وكأنها تعوضه بسعادة المواطنين  بـ"حوانيت أمل" المذلة. إنها مقاربة بليدة لتزيين الخراب. وقد بدا الوزراء المساكين مشفقين  في مؤتمرهم الصحفي وهم يبررون ذلك وكأنهم يستجدون المواطنين لقبول حججهم. لقد أمسوا في وضع محرج أشبه  بالحواة  في قاطرة ميترو يستجدون الركاب بعد لحن مزعج. إنه دفاع بل هرطقات اندمجت فيها أطراف عدة بأشكال مختلفة لكن الحظ حالفها في أن تظل قاصرة  وأن يظل دفاعها غير مبرر اقتصاديا ولا أخلاقيا وهو أسوأ ما فيه بالنسبة لكوادر تعلموا في الخارج كيف يخدمون شعبهم أو بالنسبة لنواب متهاونين انتخبوا ليرفعوا مشاكل شعبهم إلى الحل وها هم يصفقون لسحقه ،ومن  سعد الطالع أن كل تلك الجهود   لم تستمل أي أحد لسذاجته، بل غدا وزير المالية الشاب مثيرا للشفقة  في دفاعه المستميت عن استنزاف جيوب المواطنين الفقراء أصلا. "الرئيس الموريتاني "، أو على الأصح  عزيز الذي يمثل الوجهة الأولى لأصابع الاتهام بالإتجار بهذه المادة من خلال شركات له  بالوساطة، أو بمشاركته بأغلبية رأس مالها عبر شركاء شكليين  من محيطه الأسري والاجتماعي ـ حسب غالبية معارضيه ـ هو شخصيا من يفرض هذا السعر ولا يريد التراجع عنه، وبذلك تكون "الحكومة الضعيفة" متواطئة في تماديها في الدفاع عن مصالح فرد ـ والدافع الوحيد هو الحفاظ على وظيفة منزوعة الصلاحيات ـ بإخضاع شعب بأكمله للعيش خارج قدراته الشرائية حيث اصبح كل مواطن يحمل في طياته شعورا جديدا وإحساسا خاصا بالهموم . إنه بحق وضع يطحن الفقراء بلا هوادة،والموظفين الصغار   خاصة أن النظام  عندما طبق سياسة التقشف من خلال التسريحات الجماعية ونقص الرواتب والعلاوات وتقليص ميزانيات التسيير المنكمشة  أصلا لم تتأثر ميزانيات البذخ في الرئاسة والمؤسسات المرتبطة بها ولا في أسفار الرئيس ولا مخصصاتها ولم تدمج في جدول التقشف إن النظام لا يسمع صراخ المواطنين التي هي في الحقيقة عجين من الخيبة والحسرة، ويضع جميع أنواع التعبير برفض هذه الوضعية خارج سياقها الطبيعي، مثيرا حولها ـ عكسا لذلك ـ تهما بإثارة الفوضى والشغب لكي يبرر معاملتها بقسوة. 

 

شعار "ماني شاري كازوال" ليس شعارا من عباءة  الإسلاميين، ولا من وحي المعارضة بحيث يمكن مجابهته بإلصاق أي تهمة سياسية به أو إلصاقه بجهة ما. بل هو شعار من قلب البطالة والفقر  والغلاء الذي يعتصر الشعب أي بكل صدق إحدى صور تجليات رفض الإذعان لسلطة تريد تجويع ومحق شعبها، لا غير. والأهم من كل ذلك أنه جاء خلال توقف نجاعة العملية السياسية في البلد، وانعدام أي ضمان لمستقبل فعاليتها بتأثير سلوك النظام نفسه. وقد تجلى بسطوع الشمس عجزنا المتكرر كفاعلين سياسيين -مجتمعا وأحزابا- عن التصدي للشطط في  تسيير الممتلكات والدولة والمسار نفسه،  ليس لأننا نألو أي جهد  في محاولة وقف ذلك النزيف، لكن بسبب  نمط هذا النظام وعجرفته الكبيرة في تحريك دفة السياسية  التي لا تسمح بأي شراكة ولا تأخذ بالعقل. وهكذا  تم إحباط جميع المحاولات المدنية في إحداث أي تغيير سياسي يأتي بفضل العمل الشرعي والقنوات الديمقراطية. ولهذا غدا مسارنا مشوبا بالعوز وصارت المقاربة الأفضل أو الأكثر شعبية في تحررنا من قبضة هذا النظام العسكري انتظارالحلول السحرية الممزوجة باليأس. ولأن معضلات وضعنا، وبالخصوص السياسي منه، دوامة من العبث، فقد فقدنا مرة أخرى أي تصور لحل توافقي على الأقل يأتي من منطق الحوار أو التفاهم. وقد تسبب البحث عن ذلك في انقسام في المعارضة خاصة المنتدى، وانتهى به المطاف إلى أن أصبح يضرب أخماسا بأسداس في وضعية لا يملك فيها إلا الندم على تلبية دعوة النظام غير الجدية  الخامسة للحوار. كما تعطلت مجهودات المعاهدة التي جمّد الرئيس مسعود نشاطه فيها بسبب انسداد الأفق بفعل تقلب مواقف النظام المرتبطة بمزاج محمد ولد عبد العزيز، ولم تفلح المبادرات الهامشية هي الأخرى في تحريك الجمود في  " خِبْرِتْ عَرْ. لقد قضى النظام على جميع مظاهر البهجة والوِدْ وخيارات السلم في البلد وقوَّضَ التجربة الناجحة في أعقاب انتخابات 2007 وأسس مساره الخاص به. وهكذا دلفنا من الباب الخلفي إلى ديمقراطية "قميئة" حيث يتم الإحتفاظ بالشكل من أجل تعبئة شكلية شروط  الممولين. إنه وضع قمين بالشفقة وضعنا فيه "عزيز".

 نحن الآن خارج كل الشرعيات بمعنى الطموح أو الشعور بأننا في الإتجاه الصحيح الذي يحقق الرغبة في التطور والرخاء وبناء القوة، إلى الوضع الذي لا يعطي أية ثقة بالمستقبل، بل يعطي مؤشرات بعدم الإستقرار الذي يهدم أهم محظياتنا  ويعطي بالعكس مستوى منحطا من الحياة المادية. النظام السيء هو الذي يضعك في الأغلال، لكن النظام الأسوأ هو الذي لا يريد لك أن تقاوم وأنت مصفد بالحرمان والتهميش والإستهداف. إن النظام الحالي -زيادة على ذلك- يكبلنا في ديمقراطية غير وظيفية تحول بيننا، يقينا، وأي تناوب سلمي،  بل ومع الإستقرار دون أي تأنيب للضمير. إنه يمنعنا من أي مشاركة فعالة في العملية السياسية، ليس لأن العالم يتغير من حولنا ويجب علينا أن نأخذ حصتنا من هذا التغيير، بل وفقط من أجل أن نقي أنفسنا أسوأ الاحتمالات الذي هو شبح "الصوملة ".

 ليس من قبيل الإفتئات القول أننا أصبحنا كمن ينتظر العقاب أو أننا نعيش كل يوم في حياتنا كآخر يوم للإستقرار. فقد عرفنا بفعل هذا النظام ميلاد معضلات جديدة أكثر قدرة على قلب البلد رأسا على عقب بتداول الآراء المتطرفة التي يحظرها الدستور والتي تلهب المشاعر وتنفخ صدور العامة وتحشد الأحقاد، بتراخيه هو في البداية ،فقد صار بسبب ذلك لكل  شريحة من مكونات هذا المجتمع التقليدي  نصيبها من  المشاركة في الإضافة لمخزون الأحقاد في بحثها عن الذات في غياب دولة المؤسسات والعدالة على نحو يوشك فيه الإنتقام أن يكون  السبيل الوحيد لإسترداد الحقوق... فقد عرفنا حراك لمعلمين، ولا تلمس جنسيتي، وميثاق لحراطين، وإيرا التي هي في الحقيقة بديل عن مساعي استرجاع الحقوق بالدعوة السلمية كما في نهج مسعود ولد بلخير الذي تم الإعراض عنه  مرات عدة، وحزب البيظان الذي هو ردة فعل على إيرا، وموجات الكفر التي تتزعها العجائز باسم المدنية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة. كما تجمعت المعارضات في كتل بعضها لا يعبأ لمآلات الوضع في كنف هذا النظام إذا ما كانت هنالك فرصة لزواله. إننا في واقع الأمر ننتظر سقوط القشىة، وسيكون ذلك موجعا في  سياق الإفتقار الموحش للأبنية الفكرية الكبرى  وتلاشي التفاهم حول مفهوم الوطن ونكوص النخب في وجه ذلك. إننا نلمس من جهة أخرى، رغم إعترافنا بالفوارق الحقيقية بين جميع هذه الحالات، إنتقالا مدهشا نحو رفض هذا النظام رفضاً غير منسق، لكنه سيأتي حتما بالتغير أو بزواله، إلا أنه –للأسف- قد لا يكون عبر قنوات ديمقراطية،  وقد يكون باهظ الثمن،  ولذلك ما يبرره من ضعف القنوات السياسية  وحاجتها الماسة إلى الشرعية. إن  العملية السياسية برمتها -كإطار للتفاعل وتبادل الأدوار، ولعرض الأفكار والبرامج السياسية- لن تفضي إلى ميلاد نظام سياسي يملك القوة اللازمة والشرعية لحل تلك المعضلات، خاصة إذا انطلقنا من أن الديمقراطية هي الحق الشمولي في الإشتراك في السلطة السياسية من خلال اختيار من يحكم بواسطة انتخابات دورية على أساس تعددية حزبية وبالإقتراع السري العام النزيه. وبذلك نجزم بعدم ديمقراطيتنا أو بعدم حصول ذلك الشرط.. لقد صار التقدم نحو التحول أو التناوب السلمي على السلطة  افتراضا غير واقعي. وهكذا -مرة أخرى- تعطلت جميع الآليات، كما لم يعد هناك أي عقل أو بنية قادرة على إنتاج مبادرات من وسط هذه البنية  السياسية  المرتبكة. إن أسلوب النظام هو أصل انحطاط المسار السياسي للبلد، ولن يملك من الآن القوة الكافية لإيقاف الأزمة عند انحدار معين خاصة أن المشاعر عادت إلى صف المعارضة إلى حد القول أنها صارت تملك جزءا كبير من  قوة الشارع ،   وبهذا لا يمكن ترك  المفرامل تتآكل حتى تلعب الصدف لعبتها بالبلد. إن الصفة اللاعدوانية للشعب جعلت النظام لا يقدّر إحتمال الإنفجار حق تقديره،  وهو يبني تفكيره على أو ب ، جهل أو تجاهل للحقائق. وقد أغرته -كباقي الديكتاتوريين- بالتسلط وتوسيع هامش صلاحياته على حساب الديمقراطية والقوانين، بل وبالتحمس للبقاء وكأنه يريدنا  شعبا منطفئا لا ثمين لديه، فذلك يناسبه كثيرا حيث يتناسب المنسوب. إن محمد ولد عبد العزيز يسيّر البلد بالعقلية العسكرية المتعلقة بالهدم والنصر دائما، وذلك بالتضحية بكل ما لديهم، لهذا لا يمكن أن نتوقع حلا بواسطة الحوار تحصل المعارضة أو الوطن فيه على مكاسب بل نتوقع الحوار الذي يحقق هو فيه كل النصر أو هزيمة ماحقة للمعارضة . الطريق نفسه  يسلكه  في تسيير مصالح الناس وموارد البلد. ولكي  نجد الدلالة الحقيقية لذلك علينا أن لا نبتعد كثيرا  إلى الطريقة التي اختيرت  بها المدارس التي تم بيعها في مزاد محسوم مسبقا لصالح من يهمه الأمر أقدمها تعود ل 1965، مع وجود مدارس أخرى أقدم منها بفارق قرن مثل مدرسة كيهيدي والمذرذرة وأبي تيليمت وفي مرحلة أخري أطار والنعمة ولكصر وغيرها، وفي مبررات إقتطاع  مساحات من الملعب الأولومبي ومدرسة الشرطة لصالح خصوصيين،أو مقربين ، وانتزاع ملكية أراضي المواطنين ظلما في شارع المقاومة ومنحها لأفراد المؤسسة العسكرية  بعدما تم التخير في إقطاعات منها. وكذلك رفع شعار محاربة الفساد والحفاظ في نفس الوقت على بؤر فساد شخصية فاضحة  في الصفقات العمومية  وفي طريقة تسيير ميزانية الدولة وفي استخدام عوائد المعادن التي عرفت إزدهارا شكل عطية لنظام عزيز وكانت السبب في دق طبوله بالترويج لزيادة نسبة النمو ،لكن وبعد هبوط سعرها اتضح أنه لم يقم إلا بالنهب الممركز  بين شخص  الرئيس ومدير أسنيم وأن الحكومة لم تتلافى النسبة  النمو دون 2 في المائة بدل 6,6في المائة  ، وكذلك في تسيير المعونات والصفقات الأجنبية، وفي برنامج أمل، وحتي في الإستفادة من  الصدقات الموجهة للمعدمين حيث ظهرت سيارة مفوضية الأمن الغذائي برفقة  الحرس الرئاسي وهي تحط موادا غذائية في منزل الرئيس  الشخصي... إن اعتبارات الشفافية  والموضوعية ليست يقينا ضمن هذا العمل. وهذا هو أصل ايديولوجية هذا النظام. ففي الواقع يمكن أن تكون لشرعية الديكتاتور أصول متنوعة،  بدءا من إخلاص الجيش وانتهاء بالدعاية التي تبرر أهميته في الحكم. وقد بنيت هذه الدعاية على خديعتين:  الخديعة الأولى  رفع شعار الإصلاح والشدة في محاربة الفساد والميل إلى الفقراء. والخديعة الثانية بناء  القوة والأمن. وبهذا تحول الرهان  من التأسيس لديمقراطية حقيقية إلى بناء مجد شخصي ينحو باتجاه ديكتاتورية مبنية على المغالطات. لكن ولحسن الحظ فإن تلك  الكذبات التي بررت مجيء عزيز تلاشت. ولقد أصبح الناس مصدومين من فشل شعاراته، ولذلك باءت محاولاته استرجاع ثقة الفقراء في شعاراته بالفشل في أغلب الأوساط الشعبية خاصة المناطق المتخلفة. إن محاولات تلافيه لذلك بإخضاع مجمل الفاعلين والموظفين لرقابة الدولة لم تفلح، فقد خيم الإنحلال من الرعب الذي يفرضه على الناس. لذلك نجحت مجمل تظاهرات المعارضة حتي الأقل مالا والأشرس معارضة مثل إتحاد القوي الديمقراطية، ومهرجانات المنتدي التي ظلت ناجحة في شرق البلاد مع جهود الإحباط التي تصنع من عدم نجاحها أمرا مقدسا، فقد كان مهرجان المنتدى في النعمة 6 مرات أضعاف مهرجان الحكومة الذي أقيم تزامنا معه وحضره 4 وزراء، وأقيمت دعما له مباريات رياضية ومحاضرات الأئمة وفرق الغناء والرقص. ومن جهة ثانية فقد اتجه رجال الأعمال  إلى تأمين أموالهم في الخارج بحيث يُمكنهم ذلك مستقبلا من دعم خيارهم السياسي بحرية. لكن كل ذلك ليس كاف  أبدا  لأن نتكلم عن مستقبل  الديمقراطية في البلد إلا إذا عرفنا أين ستكون نهاية هذا النظام: هل هي وفق مقتضيات الدستور أو بلَيِ عنقه؟.. إن العقول الأكثر إتزانا في هذه الربوع لم تجد سببا للتفاؤل بشأن مستقبل هذا البلد، وبالأخص ديمقراطيته، وذلك ضمن المقولة الشائعة من أن الرجال الذين يتقيدون  بمصالحهم  الشخصية لا يمكنهم بناء دولة بالمفهوم القانوني، لكن يمكنهم بناء دولة تعمل بعقل ومنطق الطغمة.

لقد فشلنا في فهم ذلك عندما حاول الشباب في حركته الماضية (25 فبراير) جرنا إلى حقل التغيرات في محيطنا العربي. وقد كان التحليل الذي سيطر في نهاية المطاف أن من الأحسن للدولة الإستمرار في هذه التجربة بدل الفوضى في انتظار أن يَرشد النظام، لكن -ومع مرور الوقت- اتضح أن الحل لن يأتي إلا في أفق تحرك الشباب، وأن النظام لا يستفيد من الفرص، ولا يقرأ التاريخ حتي القريب جدا. ولهذا صارت حركة "ماني شاري كازوال" المقطوعة من الإرتباط المباشر بالربيع العربي، تحرك مشروع ووطني، وفرصة أخرى للتغيير يضعها الشباب أمام شعبنا الصبور مستلهما من الإنتفاضات العربية الناجحة قدرة الشعب على سحق أكثر الأنظمة عتوا.

محمد محمودولد بكار