أين يقع الحوار الوطني ما بين الحقائق الثلاث: حقيقتي وحقيقتك والحقيقة ؟

يمثل بناء الحوار مناسبة للموريتاني يتموقع خلالها ويعبر بصفة واضحة ومعلنة عن تموقعه تجاه كافة المشاكل التي من شأنها أن تعصف ببلده وإيجاد السبل الكفيلة بضمان مستقبل دائما أفضل لبلاده .

ويفرض البحث عن ذلك المستقبل الأفضل على الناشطين السياسيين الوصول إلى إجماع عبر مختلف الطرق ويبقى الحوار الشامل والصريح أفضل طريقة لإخراج البلاد من الأزمات في حال وجودها ولوضع خارطة طريق تتفق عليها كل الأطراف .

 

وتمثل مبادرة الحكومة الشجاعة تذكرة ودعوة الأحزاب السياسية والنقابات والمجتمع المدني والشعب الموريتاني كله لتصور حلول مجمع عليها تقوي نظامنا الديمقراطي المتعدد والتمسك والتشبث بها.

 والحوار كذلك وسيلة لإسهام كل فاعل في تصور ووضع نمط حكامه يقدم بلادنا ويضمن تنميتها واستقرارها وأمنها وتمكن من خلال محاربة الفقر في كل الأوساط من الحد من الفوارق وتقوى دولة القانون.

ولعله من المفيد أن نذكر هنا بما قاله بعض الحكماء حول الحوار.

 

يقول ( آمادو ها مباتي باه) المعروف بوسع حكمته " كان معلمي ( تيرنو بوكار ) يقول دائما الحقائق ثلاث : حقيقتي وحقيقتك والحقيقة .

ويقع الأخيرة في مسافة متساوية  من الأولتين ولاكتشاف الحقيقة خلال تبادل يجب على كل طرف أن يتقدم نحو الآخر وينفتح نحوه.

وتفرض هذه الطريقة نكرانا ولو مؤقتا للذات ولما يعرف { ويعتقد } ذلك الطرف

 

إن إناء مليئا لا يمكن أن ينضاف له ماء بارد

 

" كما يقول ( هامباني باه) كذلك " إذا أردنا التفاهم المتبادل يتحسن علينا أن ننسى لفترة من نحن وما ذا نعلم من أجل الانفتاح والاستعداد للاستماع إلى المخاطب " .

فالحوار ليس بالأمر السهل نظرا لما يحمل في طياته من عنف على الذات المتمثل في الكف عن أمور كان التعلق بها شديد

ويقول عالم النفس ( جاك لاكانه) " يبدو الحوار في ذاته تراجعا عن العدوانية وفعلا فإن خيار الحوار يمثل تنازلا عن العدوانية وغيرها من طرق التعبير غير العقلانية " .

فالحوار تواصل وكما هو معلوم فإن الهدف من التواصل هو التفاهم المتبادل.

 

ويتطلب الحوار كذلك أن يتسم المشاركون فيه بحسن النية وأن يكون خطابهم ذا مصداقية مما يلزم بأخلاق الحديث لأنه كما يقال " لا حاجة في الحديث مع من ينكر المبادئ " ومن هنا فإن الحوار يمثل فرصة للأخذ والعطاء وجها لوحه ومواجهة ينبثق منها قرار أو إجماع أو وفاق .

 

 وتعرف موسوعة ( ويكيبديا ) الحوار بأنه " كسائر الاتصالات لا بد له من مرسل ومستقبل على الأقل إلا أنه يتميز بنوع العلاقة التي تربط الطرفان المشاركان علينا الحوار باعتبار وضع الخالق أمرنا شورى بيننا ولتلك الشورى أخلاقيات وأدبيات إذا تمسكنا بها سنتمكن حتما من تجاوز كل الصعوبات.

 

لماذا الحوار؟

 

إن أحد الأهداف الأساسية لأي حوار وطني ينبغي أن يكون بتقديم اقتراحات والتزامات تدعم وتقوي وحدة بلادنا الوطنية وتحميها من أي اعتداء خارجي كان أم داخلي .

لقد تميزت بلادنا عبر التاريخ بثقافة مبنية على احترام القيم النبيلة المستوحاة من تعاليم ديننا الحنيف والتي تتمثل في التضامن والتكافل الاجتماعي وقبول الاختلاف والأمانة والصدق وحب الخير والتسامح والفخر بالذات .

وتمثل هذه القيم قاعدة صلبة لتوطيد وحدتنا الوطنية في اختلاف يثريها بدل أن يهددها .

 

وإن الأوضاع التي يعيشها اليوم بعض البلدان تستدعي منا التذكر بمسؤولياتنا تجاه الحاضر وأجيالنا القادمة وتفرض علينا أتخاذ سياسة حكيمة للعمل من أجل توطيد وحدتنا الوطنية التي هي الضمان الأساسي لبقاء بلادنا والتصدي لكل مساس بهذه الثروة بحزم  لما يروج له من يدعون المعارضة حبا للعيش في أوربا وأمريكا لا في إفريقيا .

ويمثل ديننا  الحنيف اللحمة الأقوى لشعبنا المسلم من خلال الأحاديث الشرفة " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" و " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وقد ترسخ هذه الدعوات إلى الوحدة والالتئام عن طريق تربية مدنية تبرز المدينة المواطنة وترقع منهما في سلم القيم .

 

يجب بذل كل الجهود من أجل أن يشعر كل موريتاني مهما كان لونه ومهما كانت لغته ومهما كان وضعه الاجتماعي التقليدي والراهن يشعر بأنه موريتاني قبل أي انتماء عرقي أو جهوي أو أي لون .

وعنده تتوطد الوحدة الوطنية وتقوى قواعد التعايش السلمي وتضمن ديمومة البلاد ويجب علينا أيا ما كنا أن نعمل من أجل هذا الهدف ونضحي بما يتطلب الوصول إليه من تضحية.

 إن شعبنا يتقاسم كل مكوناته الثقافية في تنوعها سواء المادي أو غير المادي منها كالدين والسكن والمراعي والموسيقى والعادات والتقاليد والطبخ ...كل شيء ما عدا اللغة .

 

كيف نصل إلى الحقيقة ؟

 

إن البحث عن الحقيقة التي تقع على مسافة متساوية بين حقيقتك وحقيقتي, بين حقيقة الموالاة وحقيقة المعارضة يتطلب أن يقبل الطرفان التقارب والانفتاح والاستماع كلا للآخر من أجل الوصول إليها.

ولن يتم ذلك إلا عبر الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمنظمات المهنية.

إلا أنه من الضروري أن نعرف بإيجاز مهمة الحزب السياسي التي يتوقع منه منخرطوه .

تمثل الأحزاب السياسية أهم عناصر المجتمعات الجماهيرية اليوم وتلعب دورا اجتماعيا كوسيط بين المواطن وأجهزة الدولة.

 

والحزب هيئة يجب عليها أن تحترم اهتمامات منخر طيها وآراءهم وأن لا تكون أداة بين أولائك الذين يردونها وإلا فإن الحزب يفقد شرعيته ومصداقيته وتخيب آمال من التحق به لأهداف وطنية .

وهذا التعريف الموجز يدعو رجالاتنا السياسية والمهني للأخذ بالمصالح العليا للمواطنين وللوطن أن يلبوا النداء إلى الحوار الوطني ويتذكروا أن الحوار وإن تطلب نكرانا موقتا للذات ليس مواجهة بقدر ما هو الوسيلة المتحضرة للبحث واكتشاف الحقيقة .

 

  Ahmedou Bock, Professeur d’Anglais

Titulaire d’un diplôme des Etudes Supérieures en Linguistique Le Mans (France)