بين ن يدي الآن كتاب نفيس أعارني إياه صديقنا اللوذعي الألمعي المختار بن باب ، الكتاب صدر حديثا عن مركز نماء للبحوث والدراسات ، وهو معنون ب "العقائدية وتفسير النص القرآني" ، ويتمحور الكتاب حول كشف تجليات التحيز لرؤية عقدية معينة في تفسير النص القرآني على اختلاف درجات هذه التجليات ، وعلى اختلاف نوع هذا التحيز.
ويفرق الكاتب - في مستهل حديثه عن هذه الظاهرة - بين مفهومين مختلفين : مفهوم "العقيدة" ومفهوم "العقائدية" حيث يشير إلى أن العقيدة هي المبادئ العميقة التي دعى إليها الإسلام وهي الحقائق الكبرى التي استقرت في الوجدان وأثرت في سلوك الأفراد من الجيل الأول الذين تلقوها مباشرة من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، وقد تلقوها تلقيا مباشرا من نصوص الوحي دون "قبليات مقدسة" تقبل أن يقام بينها وبين الوحي صراع تأويلي. ويؤكد الكاتب أن العقيدة الإسلامية ظلت ردحا من الزمن تسير وفق هذا النموذج التسليمي المباشر إلى أن وقع أول خلاف عقائدي في تاريخ الأمة على يد الخوارج ، "وحينها بدأت ملامح التحول في التعامل مع العقيدة تظهر تدرجيا ، وبدأ انتقال العقيدة من طور الانتماء العام إلى طور الانتماء الخاص ، ومن طور التقرير المجمل إلى طور التقرير الجدلي ، ومن طور العقيدة كأسس معرفية مسلمة يؤسس عليها العمل وتبنى عليها الحركة إلى طور الصراع حولها والعمل على إعادة تأسيسها ، فكانت في المرحلة الأولى هي التي تؤسس (تمارس التأسيس) وأصبحت في المرحلة التالية هي التي تؤسس (يمارس عليها التأسيس)!" يبين الكاتب إلى أن هذا الانتقال للعقيدة من طورها الأول إلى طورها الثاني هو المبرر الذي جعله يمايز بين المفهومين، فسمى طور ماقبل الجدل العقائدي "بالعقيدة"، بينما سمى الطور الثاني "بالعقائدية .
وخلص الكاتب إلى أن هذا التحول ألقى بظلاله على النص القرآني فأصبحت كل طائفة من الطوائف تحاول أن تجد لها في هذا النص منزعا استدلاليا تتوصل من خلاله إلى تأسيس مشروعية مقولاتها العقائدية ، فتجعل خصمها منازعا للقرآن وهي الموافقة له. يتضح لنا إذا أن مفهوم العقائدية الذي يتحدث عنه الكتاب لايعدو كونه مفهوم مرادف لمابات يعرف لاحقا "بالإيدلوجيا".
ومن أجل تبيان تأثير العقائدية في تفسير القرآن الكريم يشير الكاتب إلى أن "العقائدية" فرضت نفسها -دون وعي من اصحابها - كسلطة فوق سلطة النص أحيانا فيصبح طريق معرفة الحق منوطا بانتساب المقالة إلى هذه الطائفة العقائدية ، وليس إلى موافقة النص فبمجرد أن تنسب المقالة إلى هذه الطائفة حتى ولو لم يتم البحث عن دلائلها بالقدر الكافي فإنها تعبر عن الحقيقة ، وعلى العكس من ذلك يكفي لعدم قبول مقالة أخرى نسبتها إلى طائفة مخالفة. ويؤكد الكاتب أن سلطة العقائدية هذه امتدت - بعد النص - إلى الإجماع حيث حولت مفهوم الإجماع من مفهوم (إجماع الأمة) إلى مفهوم (إجماع الطائفة) وبالتالي تحولت العصمة من الأمة إلى عصمة الطائفة.
ولأن العقائدية - كما يقول الكاتب - تفرض سلطتها على أتباعها فالمخالفة والاعتراض على قول الإمام /الرمز ليست مستساغة ولا مقبولة لأنه يتحول في النسق العقائدي إلى رمز يشير إلى (العقائدية) وتمكنها في النفس ، والاعتراض عليه أو مخالفته تعني تشويه الرمز العقائدي. وقد نبه الكاتب إلى ملمح هام حيث قال أن سلطة العقائدية عندما تتمكن في الذهنية فإن المناظرات لاتجدي معها نفعا ، لأن "سلطتها" أقوى من "سلطان الحجة والدليل والبرهان".
ويوضح الكاتب إلى أن العقائدية ربما تظهر الهوى دينا ينافح عنه من غير أن يشعر صاحبه ، فضلا أن العقائدية (الإدلوجيا) يمكن أن تكون "حجابا" يمنع من رؤية النص على ماهو عليه ، ويحول دون البحث العلمي المتجرد فيه. فالمهم هو تبرير المواقف والأقوال وليس الوصول إلى الحقيقة. وعلاوة على ذلك يشير الكاتب إلى أنه منذ بدايات طور الجدل العقائدي أصبح فرز المفسرين عقائديا إحدى الأدوات التي تستخدم للتحذير من المفسر تارة ، وللترغيب في غيره تارة أخرى.
ويعتبر الكاتب العقائدية نسقا فكريا يمكن أن يعمل في الخفاء ، فهو لايظهر على السطح بشكل دائم وإنما تكتشف تحيزاته ويتلمس من خلال الرؤى النقدية والتحليل ، مؤكدا أن آثار العقائدية تسري في كثير من تناول العلماء لقضايا العلوم على اختلاف تنوعاتها حيث سرت آثارها على "علم الجرح والتعديل" كما "سرت في قواعد أصول الفقه" . موردا عديد الأمثلة على ذلك.
وفي "سريان العقائدية على التاريخ" يورد الكاتب مقولة جميلة للسبكي يقول فيها ( وقد استقريت فلم أجد مؤرخا ينتحل عقيدة ، ويخلو كتابه عن الغمز من من يحيد عنها ، سنة الله في المؤرخين ، وعادته في النقلة ، ولاحول ولاقوة إلا بحبله المتين) من خلال كل ذلك يتبين لنا أن مجال العقائدية (الإيدلوجيا) ليس كتب التفسير فحسب بل يمتد المجال لشتى صنوف المعرفة وفنونها وليس "التاريخ" إلى أحد هذه الفنون. بقي أن أشير إلى أن الكاتب أكد على أنه لايستخدم مصطلح العقائدية من أجل الذم في ذاته ، وإنما يستخدمه كمصطلح إجرائي يكشف من خلاله طبيعة الجدل الﻻحق حول النص القرآني ، وتحوله من مرحلة إلى أخرى.
ومن جهتي أيضا فأنا لا أورد مصطلح "الإدلوجيا" لمحاولة رفضها مطلقا ، وماينبغي لي ذلك ، بل أنا أقبل الإدلوجيا حين تكون إطارا للتواصي على الحق والصبر ، و دافعا للبذل والتضحية في سبيل القيم والمثل العليا، لكن ذلك أيضا لا يجعلني أغض الطرف عن السلبيات التي قد ترافقها حين ماتكون عاملا للإقصاء ورفض الحق ، ومحفزا للتعصب من دون علم ولا بينة ولابرهان . وبالجملة فالرؤى البشرية معرضة دائما للنقص مهما حاول القائمون عليها أن تكون "مستجمعة لعناصر الكمال".