لا يقتصر مفهوم الفاتورة على التكاليف المادية، بل يشمل المفهوم أيضا التكاليف المعنوية المتمثلة في"السخرية، التسفيه الازدراء الاحتقار، التخوين ، التجاهل للآلام والمآسي.." والتي أصنفها قمة لهرم الإساءة إلى الآدمي، وهي كلها صفات غير حميدة تترك جراحا تستمر لعقود يلتئم الجرح عميقا كان أو بسيطا مع مرور الزمن إلا جراح الكلمة فإنها تأخذ مكانتها في أحداث الذاكرة التاريخية للأمة على مر الأجيال، حيث تخلف تشققات وتصدعات اجتماعية خطيرة و عميقة وفي ذات الوصف قال أحدهم :" تبرى الجروح ولو كانت قواتلي إلا كلمة السوء لا تبرى عن الكبد".
وقف سيد القصر على منبر ثقيل الفاتورة ،وتكلم في مكبرات باهظة الثمن مشبعة بطاقة كهربائية متبقية عن فائض التصدير للدولة المجاورة مالي ،وقف من الجمهور حيث الكل مستقبله كالبيت العتيق ،أعطى الأوامر لاستكمال إجراءات التنظيم ،تتابعت طلقات من مدافع تقليدية مشحونة بالبارود فرحا بالمجهول....
تقاطرت كلمات الخطاب قوية، حادة؛ قاسية ثم هادئة؛ ناصحة؛ موجهة، تهكمية؛ احتقارية في مواضيع ليست بالقليلة، وجه الخطاب بمجمله للنقد الصريح للخصم السياسي المعارض، حيث احتل الهجوم غير المبرر المساحة الزمنية الأكثر في خطاب الرئيس الذي من خلاله حاول أن يقوم بدور اللاعب المهاجم للخصم ،المدافع عن شباك منجزاته، فتارة يراوغ وتارة يمرر تسديدات قوية للخصوم ، الجمهور المشجع الذي جيء به من أماكن متفاوتة البعد لأغراض الزغاريد والتصفيق وتسخين الساحة ايجابيا ،خيم عليه الصمت إلا في حالات نادرة، لم أفهم حتى الان ما لدوافع التي أدت لموت حماس الجماهير المحتشدة هل فقدت الأمل؟ أو فوجئت بقوة خطاب لم تقدر على فهم اشاراته واحاءاته وتفكيك رموزه ؟
لا تزال رسل وبعثات الموالاة مختلفة في قراءة خطاب النعمة رغم بساطته وسلاسة لغته ووضوح أفكاره وسهولة فهمها إذ أنه لا يحتاج لحملة شرح كي - لا أقول تفسير- ،فالخطاب تناول محاور ثلاثة :
محور سياسي لم يقدم فيه الرئيس أدلة قاطعة و مقنعة في نية الحكومة على حلحلة جذرية لانسداد الافق والضبابية التي تخيم على المشهد السياسي الوطني بل إن الخطاب زاد في حدة المواجهة والحرب الكلامية واتهام البعض للبعض بالخيانة والعمالة.
بينما تناول المحور الثاني: التذكير بحصيلة الانجازات التي يدعي النظام متوهما أنه حققها على أرض الواقع خلال سبع سنوات من العمل..
وفي- رأينا- أنها حصيلة هزيلة إذا ما قورنت بالطفرة غير المسبوقة لعائدات الصادرات الوطنية "الذهب ،الحديد،السمك.." مع تراجع غير مسبوق هو الآخر لسعر واردات البلد من المحروقات" الطاقة" (الشريان الحي المغذي لكل جوانب الحياة ).
أما الحور الثالث : فركز على الوحدة الوطنية باعتبارها أهم ركائز التنمية الشاملة والمستدامة، لاعتبار أن التنمية دون استقرار مستحيلة والاستقرار دون العمل على وحدة و تجانس واندماج شرائح ومكونات المجتمع ضرب من الخيال، بيد أن الرئيس أكد بقوة رفضه الاعتراف بالعبودية كظاهرة ممارسة يئن تحت وقرها الالاف من أبناء المجتمع منذ النشأة وإلى اليوم؛ واكتفى بذكر المخلفات قبل أن يدخل في تحليل صدم شريحة بأسرها الشيء الذي لم اتوقعه يوما من راس السلطة ولا من وزيره ورئيس حزبه ولا حتى رسل بعثاته الذين صنفوا هذه الشريحة في مملكة الحيوانات البليدة التي تتكاثر عذريا؛ وبالتالي فهي مصدر لإنتاج شبكات وعصابات جرائم الرعب والمخدرات ؛ولا سبيل انجع من اتخاذ أجراء ت للحد من تكاثرها . .
إذن فالاستخفاف بمجتمع الحراطين، ليس فقط. في مضمون الفقرة التي أثارت الجدل وأنتجت فقهاء جدد في علم التفسير والتأويل والاجتهاد فالرئي وأغلبيته والمنتدى وأنصاره وجهان لنفس العملة.
إذ يتفق الطرفان في النظرة الاستهزائية والاحتقارية للحراطين وأدلة الإثبات لا تكلف بحثا فهي تطفو على السطح بما يزيد على الكفاية (اقصاء منظم من كل واجهات القيادات السياسية والوظائف الادارية والانتخابية في كل الاحزاب التي تدعي انها تقدمية.
تتساوى المعارضة والموالاة ،في ازدراء واحتقار شريحة الحراطين بالعزف على أوتار آلامها ومآسيها والتلذذ بنبش ماضيها المأساوي الأليم؛ الذي من أخف جراحه "الفقرة" التي جر الرئيس كمثال في غير محله والتي تدل على عمق جرح العبودية التي لم يعترف سيادته بوجودها وهو يدشن مقر محكمة لمحاربتها .. بالله عليكم بما تفسرون هذا التناقض ؟.
وليست المرة الاولى التي تتنكر فيها سلطات البلد لوجود ممارسة العبودية ، وما دامت الحكومة ترفض الاعتراف بوجود ما هو موجود تبقى كل الجهود المزعومة بلا فائدة وبلا أثر كالكتابة على الماء، مهما اجتهد مفكروا وكتاب ومحللوا النظام في ابتكار اقراص التهدئة وحقن التنويم والتخدير .
إن مخلفات الرق التي من بينها ما قال الرئيس أو ما قصد التعبير عنه بجملته الشهيرة وان كانت تعبر عن حقيقة واقعية إلا انها وضعت في غير محلها وتلك كارثة أخرى.
مخطئ من يتصور أنه يستطيع أن يستخدم الحراطين أو يدفع بهم كواجهة ليحقق ما عجز عن الوصول له أو يسد بهم الفجوات أو يرقع بهم الثغرات؛.بل إن محاولة استخدامهم كواجهة لخوض الصراع بالوكالة أصبح اليوم هدفا مستحيل التحقيق ؛.كما أنها لن تقبل تحت أي دعاية المساس بالوطن الحبيب، بل إنها ستقف بالمرصاد لمن يسعى للمساس بالوحدة الوطنية والحوزة الترابية من موقع الفاعل لا المفعول به.
كل الحركات الفكرية والاتجاهات السياسية والاثنية تحاول باستمرار استغلال معاناة الشريحة؛ فالحكومة تأخذ الأموال الطائلة من المنظمات والهيئات الدولية بتسويق مشاريع صورية لمحاربة الفقر في آدوابة وقرى تجمعات العبيد، ثم تصرف تلك الهبات والعطايا والمساعدات في غير ما منحت من أجله ولأجله. وقد جاء الرد صريحا وواضحا وسريعا من مقرر الامم المتحدة وكذا سفراء الاتحاد الاوربي في بحر هذا الشهر؛ حيث طالبوا بمزيد الجهد للقضاء على هذه الظاهرة وبالإشراك الفعلي لهذه الشريحة الغائبة والمغيبة عن قصد في المراكز الحيوية للدولة وهذه شهادة من الغير تكفي بحد ذاتها على وجود ظاهرة العبودية وعمق مخلفاتها.
لم تكن الحركة الزنجية- أفلام- مكتوفة الايدي ولا بمعزل عن الطمع في توظيف و استغلال آلام الشريحة للحصول على مكاسب مادية وسياسية ؛فقد سعت لذلك هي الاخرى مستخدمة بعض أطر الشريحة كما تفعل الحكومة .
متجاهلة عن قصد معاناة العبد في الوسط الاجتماعي الزنجي الذي تمارس فيه بصورة بشعة ومع ذلك تبق افواه الزنوج مسدودة عن النطق بما يدور في داخل مؤسستهم الاجتماعية غير المتجانسة والتي تعرف تفاوت طبقيا خطيرا على السلم في المنظومة الاجتماعية لمجتمع الزنوج "خصوصا السوننكي والفولان"ولهذا اعتقد أن مكونة الحراطين لم تعد تقبل بأن تظل قضيتها جوادا سهل الامتطاء أو سلعة جاهزة للاستعمال والبيع في اسواق النخاسة السياسية أو محطة عبور أو ممر ،ولم تعد تقبل بالوصاية أو التبعية في الرأي أو الاختيار أو التعبير بما تراه ؛بل إنها وبكل قوة لم تعد تقبل أن تقحم عن غير وعي في صراع نيابة عن شريحة او قومية او اتجاه ايديولوجي او سياسي غير الذي تختار وتحدد طريقه بنفسها كما فعلت في سالف الدهر.
لم يأت ميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للحراطين هو الآخر با ستيراتيجية جديدة تسرع حركية العجلة الزمنية للقضاء على ظاهرة العبودية المقيتة والبغيضة، ... بل اكتفى بإعادة إنتاج الماضي :التنديد، البيانات؛ مسيرة موسمية سنوية؛ لم تضف قليلا ولا كثيرا و لم تترتب عليها نتائج تذكر لثلاث سنوات خلت من السعي بين المسجدين .
وفي - رأينا- أن اغلب أصحاب الرأي والقرار في المكونات الأخرى معارضة كانت أو مولاة "بيظانا أو زنوجا " لم تحصل لديهم حتى الآن القناعة بضرورة القضاء على هذه الظاهرة ، ومن بينهم قيادات في الهيئات العليا للميثاق ومن فصيلة لحراطين قبل البيظان والزنوج، يستخفون بعقول الشريحة بحضور وتحمس مزيف لمسيرات مأذونة التنظيم وغيابهم غير المبرر عن الاعتصامات والمسيرات غير المرخصة، وهذا دليل على عدم الجدية والقناعة بحقوق هؤلاء، وبالتالي فإن المشاركة في مسيرات ذكرى ميلاد الميثاق لا تعدوا كونها رياضة لحرق السكريات والأملاح والدهون الزائدة، أو مجاملة لاستعطاف هذه الشريحة الصادقة التي لا تعرف الخيانة لاستخدامها غدا في تحقيق المآرب والمقاصد.
رغم الطفرة النوعية الايجابية التي تجتاز الشريحة في مجال العلم والمعرفة والحضور في الحقل الثقافي والإعلامي والسياسي، إلا أنها لم تستفد من هذه الطفرة لتجاوز الصراعات البينية والأحكام المسبقة وجاهزية توزيع شكات الخيانة والاتهام بالعمالة والانبطاح ،التخلي عن القضية، بل حاول البعض القفز على الماضي التراكمي لنضال كائنات سياسية لا تزال موجودة حتى اليوم في قلب الحدث، رجال افنوا شبابهم وشابت رؤوسهم في مقارعة انظمة الاستبداد الاقطاعية ،كان على الاجيال الصاعدة والعقول الشابة المتفتحة ان تحترم وتقدر وتكرم اصحاب تلك التضحيات ،اعترافا و وفاء ثم تشجيعا على مواصلة النضال ،بما تتطلب المرحلة من آليات ووسائل واستراتيجيات تلائم مرحلة التحولات التي يعيشون.
لم تسلم المعارضة السياسية والحقوقية بمختلف كتلها ومنظماتها من سهام الاتهام بالعمالة وغياب الرؤية والعجز وسوء التدبير والتسيير والفشل والتخوين ، في فقرات من خطاب رئيس الجمهورية
وفي- رأينا- أن المعارضة تحتاج لترتيب الأوراق لتصحيح الاختلالات بإعادة قراءة المشروع المجتمعي الإصلاحي لها؛ من أجل تجاوز بعض الخلافات العرضية والهيكلية ، لترميم البيت من الداخل، قبل المواجهة الخارجية ، فكلام الرئيس اتجاهها لا يخلوا من بعض الحقائق خصوصا الرؤية المستقبلية وتقادم الزمن على بعض بنود المشروع المجتمعي البديل عند المعارضة، الذي أصبح غير قادر على زيادة وتوسيع القاعدة الانتخابية لها ،فخطابها السياسي أصبح يحتاج لمراجعة جذرية ودراسة تمحيصية، قادرة على أن تكون بديلا استرتيجيا في الفترة المقبلة ، أي بالتركيز على أهداف سامية لمشروع اجتماعي شامل يعطي الاولوية لخلق فضاء ديمقراطي يضمن الحرية والمساواة والعدالة في التوزيع ،مشروعا حضاريا قادرا على الاجابة علي الاشكالات والمشاكل المطروحة و التي تشكل اولوية الاولويات :البطالة عند الشباب ؛ الدواء ؛الماء الصالح للشرب؛ خدمات الصحة ؛ التعليم ؛ السكن اللائق ....مشروع كفيل باحتضان كل القوى الشرائحية والفئوية بعد صهرها في فرن الوحدة والأخوة والوئام الاجتماعي ،تحت مظلة دولة المواطنة التي تذوب فيها الحساسيات والانتماءات الضيقة،كل هذا من اجل تعرية وكشف وتسويق مواطن ضعف نظام الفساد وسوء تسييرالموارد الوطنية وعجزه عن تلبية ومواكبة الرغبات والحاجيات المتجددة للمواطن،و باختصار لم تستطع المعارضة تسويق عجز حكومة هشة البنية عديمة الخبرة والتكوين ،حكومة عاجزة عن توفير مستلزمات العيش الكريم لبلد لا يتجاوز تعداد سكانه المليون الثالث إلا بقليل .
يتواصل – في العدد القادم " مع فاتورة اخري حول القبلية وإعادة انتاج التخلف