من المعلوم - ضرورة - أن العلاقة بين السلطة و المعارضة تعبر في كل زمان و مكان عن مستوى الحياة السياسية ، و عن درجة تقدم المجتمع و ارتقائه. فالقطيعة التامة و الشك و الريبة المتبادلة بينهما، و التي تحولت منذ خطاب النعمة إلى ما يشبه العداء، كلها عوامل تؤشر إلى مجال سياسي مغلق و مأزوم.
إن ما نشاهده هذه الأيام و ما نسمعه من خطابات "عدوانية" و خطابات مضادة منغلقة على ذات حصرية طاردة للآخر، يكفي للدلالة على أن سفينة الوطن تطفو بصعوبة على سطح بحر من الأزمات، و باتت مهددة بالغرق - لا قدر الله - إن لم نتدارك أمرها.
بالفعل. نحن أمام ساحة سياسية آخذة في التآكل و التفكك و التشظي و التناثر... لا مركز لها، و لا نقطة توازن. الكل فيها يحارب الكل ! و لم يبق شيء محل تراضي أو إجماع. فالسلطة ترى في المعارضة عدوا للوطن يجب الاجهاز عليه، بل وتذهب إلى أن كل من لا يواليها هو عدو محتمل. و المعارضة، من جهتها، ترى في السلطة شر و نهب و تخريب يجب استئصاله و نفيه.
و الفريقان يقفان على طرفي نقيض. فالتصديق التام من جهة الموالاة يقابله التكذيب التام من الجهة الأخرى، و "الحقيقة الكلية" يقابلها "الباطل المحض"، و الولاء المطلق تقابله العداوة المطلقة...
و هكذا تضيع نسبية الأشياء !و المشكلة في هذين الخطابين الضدين لا تكمن في عدم إمكانية التقاء القائلين بهما و في عدم إمكانية الحوار بينهم فقط، بل تكمن أساسا في أن أصحاب السلطة لا يرون في النظام شيئا يحتاج إلى إصلاح، و أصحاب المعارضة لا يرون فيه شيئا يمكن أن يصلح.
و كل بما لديهم فرحون. أولئك غارقون في إيجابية مطلقة، و هؤلاء غارقون في سلبية مطلقة. فالطرفان معا سلبيان إزاء الاصلاح الديمقراطي و التناوب السلمي، بل أكثر من ذلك، هما متواطئان موضوعيا على بقاء الوضع كما هو عليه، إذ أن القول بأن كل شيء صالح هو ذاته القول بأن كل شيء فاسد. و في هذا السياق، يكون البلد في توازن صفري، لا يمكن معه تداول سلمي على السلطة بين جهتين متناقضتين "تعادميا".
فالتداول لا يكون، و لا يمكن أن يكون، إلا بين قوتين متنافستين و لكنهما متراضيتين في الوقت ذاته، و بالتالي، فإنه لن يتم إطلاقا ما لم تكن هناك مساحات مشتركة تلتقي فيها الموالاة و المعارضة إيجابيا، و تفاهمات و تراضي على أسس و قواعد اللعبة السياسية، و إلا كيف يمكن أن يتحول الشيء إلى نقيضه من دون تدمير الوحدة أو تفكيكها.
و لنا، في موريتانيا، تجارب قاسية و معروفة مع واقع العداء و الشر و الكراهية و التصعيد الدائم، بسبب وبلا سبب، بين الفرقاء السياسيين.
إنه واقع عقيم و سقيم، عنوانه البارز : "تأزيم" ثم "انقلاب"، ثم "تأزيم"، ثم "انقلاب"، ثم "تأزيم"، و هكذا دواليك...
ومع كل انقلاب يسقط الجميع - تسقط السلطة و المعارضة معا - و يبدأ العمل من الصفر. فهذا النوع من العمل السياسي "مواليا" كان أو "معارضا" لا طائل من ورائه و لا فائدة فيه. فهو لا يقدم، بل يؤخر في الغالب.
لا يمنح السلطة البقاء، و لا يمنح المعارضة الوصول ! و من هذا المنطلق، و بناء على ما مضى من تجارب مرة، و ما تراكم من دروس و عبر، أقول بأن شلل الحياة السياسية على هذا النحو، و انسداد الأفق، و الاستسلام للعاطفة و الخطابات النمطية و القوالب الجامدة... يفتح الباب دوما أمام استيلاء العنف و العنف المضاد في كل حين.
و يؤول حتما إلى خسارة الجميع. فلا السلطة تبقى مكانها بهذه الطريقة، و لا المعارضة تصل مبتغاها ! إنه وضع عقيم بما في الكلمة من معنى.
لذا، أردت لهذه الورقة عنوان: السلطة و المعارضة معا... في خطر ! عسى أن ينتهي التصعيد ليحل محله الهدوء و التلازم و التكامل. و الله ولي التوفيق.