حاولت حركة النهضة التونسية في مؤتمرها الأخير أن تتأقلم مع مستجدات مرحلة ما بعد المطاردة والملاحقة أيام بورقيبة وبن علي، وذلك بالإعلان عن فصل الجانب الدعوي عن الجانب السياسي في عملها، وهي خطوة أثارت الكثير من الجدل، وتباينت ردود الفعل بشأنها.
لكن ما أخفقت فيه حركة النهضة وغيرها من أحزاب "الإسلام السياسي" هو الانفكاك من ربقة صناعة الزعيم الملهم الخالد أبدا، وهي بالمناسبة ميزة لا ينفرد بها الإسلاميون عن القوميين والليبراليين والشيوعيين وغيرهم في العالم العربي والإسلامي، فالكل في هم الزعامة والرياسة سواء.
فرغم أنه لا مراء في أن حزب النهضة صناعة غنوشية بامتياز، فالرجل أتقن حبكتها ونسج خيوطها، وأرسى عمادها ورفع سمكها، وفقا لرؤية كانت يومها متقدمة حد النشاز والشذوذ على شركاء المدرسة الإسلامية، فنمت الحركة وترعرت في ظل قسوة وجبروت دكتاتورية عصية على التوصيف خارج أطر الوحشية المفرطة والطغيان الغاشم، ورغم أن قادتها أضنتهم قيود السجن وسياط السجان ردحا من الزمن فما غيروا وما بدلوا تبديلا، والغنوشي نجاه الله وقلة معه، يوم خرج من تونس خائفا يترقب ولسان حاله يردد "رب نجني من القوم الظالمين"، غير أن إصرار قادة النهضة اليوم، على ربطها بالزعيم المؤسس والاحتفاظ به على رأس هرم القيادة، وإخفاقهم في تحقيق تناوب على القيادة، رغم التغيير الاستراتيجي في النهج والمنحى، ورغم أن الرجل شاخ وبلغ من الكبر عتيا، وقدم عز عطائه أيام المحنة والابتلاء، وأخرج الحركة من أتون الافتتان والتنكيل، إلى أن أوصلها سدة الحكم، وإن بمعية شركاء متشاكسين، فضلا عن أن خلايا الحركة وأذرعها أنجبت خلال العقود الماضية من السياسيين والقادة ذوي النفس الشبابي المتحمس والعطاء المتجدد، ما كان حريا بهم تسلم خطام المسيرة والعبور بها بنيات الطريق وسبلها المجهولة، التي انبجست مع مستجدات المرحلة محليا وإقليميا ودوليا.
بل إن إعادة انتخاب "الغنوشي" على رأس قيادة حركة النهضة، سيبقيها حبيسة قيود الماضي ورهينة ظروف التأسيس، وفوق ذلك ستكون عرضة للارتباط بالزعيم الأوحد، بل ستسلك سبيلا طالما انتقدته ورفعت عقيرتها في وجه دعاته وأنصاره، ألا وهو سبيل تكريس قيادة الفرد، وإبعاد فكرة تناوب الجماعة، وللمراقب والمنافس وحتى النصير ـ حينها ـ أن يخشى صادقا محقا، قيادة المتمسكين بزمام أمور حركة، من الذين أخفقوا في التناوب على قيادتها، إن هم أتيح لهم زمام أمة أو رسن بلد.
وليست حركة النهضة في تونس أول المتعثرين من دعاة الديمقراطية من الإسلاميين، في شراك "رسوب القيادة" فقبلهم كانت الحركة الإسلامية في السودان عصية على التناوب، وبقي زعيمها ومؤسسها الشيخ حسن الترابي رحمه الله، متمسكا بصولجان الزعامة، رغم التفكك والتنافر إلى درجة العداوة والكيد، بين أجنحة الحركة المتصارعة على القيادة، وفي تركيا يقود رجب طيب أردوغان صاحب الشعبية الكاسحة والمواقف النبيلة، بلاده إلى مشروع دكتاتورية جديدة، كان أول ضحاياها رجاله المقربون وخلص الحركة الإسلامية التركية، من أمثال عبد الله غول وداود أوغلو، ولو لا بقية نضج وتضحية لدى القوم لكان حزب العدالة والتنمية قد انفجر وخسر قيادة تركيا، كما خسرها شيخه وملهمه "نجم الدين أربكان" من قبل ـ رحمه الله ـ لأن "أردوغان" ببساطة، بات مقتنعا أنه الرجل الضرورة لإكمال مشروع بناء تركيا العظيمة، فاختلف بشراسة مع مؤيديه السابقين من جماعة "فتح الله غولن"، وحظر وسائل التواصل الاجتماعي، وضاق ذرعا بالرأي المخالف حتى من رفاق الدرب وصناع المشروع المشترك، وتلك مصيبة كل القادة الذين طال عليهم الأمد، فغشيت أبصارهم بيارق السلطة وظنوا أن لا ملجأ للحكم إلا إليهم، فطول الأمد قرين الفساد وقسوة القلب والفسوق، وتلك أركان الدكتاتورية المحضة، وقس على ذلك أزمات الحركات الإسلامية في الأردن ولبنان.. وهلم جر.
ومن هنا لا يمكن أن نفرق جوهريا في مجال نهج القيادة وصناعتها بين حركات إسلامية "ديمقراطية" رسمت التناوب نظريا وحبرا على ورق في دساتيرها ونصوصها، وعطلته عمليا بتمسك قادتها برأس القمة، وبين حركات إسلامية أخرى كفرت بالديمقراطية ورفعت سيف "الجهاد" في وجهها، وبايعت أمراءها على السمع والطاعة مدى الحياة، ففي كلا الحالتين لا يوجد تناوب على القيادة ولا تبادل للمناصب، إنما الفرق في احتيال قوم على روح النص مع رفع ظاهري لراية التسليم به، وبين كفر بواح به، ورفض صريح له، لدى قوم آخرين.