الأزمة الحالية لمجلس الشيوخ، ظاهرها صراع مع الحكومة والحزب الحاكم، وحقيقتها حرب أجنحة بين أركان النظام (الأركان المدنية)، وباطنها غضب من الشيوخ على رئيس الجمهورية بسبب تصريحاته في النعمة المتعلقة بحل المجلس، لا يملك أغلبهم جرأة التعبير عنها، إلا تقريعا لمن هم دون الرئيس في مقام الأعوان، وتوزيرهم وازرة وزر الرئيس، أما جوهرها بالنسبة لمعظمهم فهو التطلع إلى ضمانات مرحلة ما بعد حل مجلس الشيوخ.
لكنها أيضا في بعض تجلياتها مظهر من مظاهر حراك يمور تحت السطح داخل دوائر الأغلبية أفرزته التصريحات الصحفية للرئيس بشأن "عدم نيته الترشح لمأمورية ثالثة"، حيث شكلت تلك التصريحات نفثا في رماد عاصفة التهارش على الخلافة التي تشكل اليوم محور الصراع بين الشركاء المتشاكسين على التوريث، وكشفت طرفا من ستار شفاف عن حقيقة هشاشة المنظومة السياسية الملتفة حول الحكم، والتي تتربص به ـ كسابقيه ـ لحظات الضعف أو أشراط النهاية لتتفكك من حوله، بحثا عن حاكم جديد تدين له بالولاء طالما احتفظ بالحكم وركن إلى السلطة، وهي حقيقة يدركها النظام قبل غيره، بحكم شواهد التاريخ القريب، فتناسخ الخطاب المدافع عن النظام اليوم مع خطاب الدفاع عن أسلافه، وتوحد الخاطبين إلا قليلا، رغم تعدد الحكام وتعاقب الأنظمة، شاهد معلوم وبينة مسلّمة لا شية فيها، على أن الوفاء في الغالب الأعم بالنسبة لقادة "الأغلبية المزمنة" يكون للكرسي بغض النظر عن الجالس عليه، وحيثما يممت السلطة وجهها، ولوا وجوههم شطرها، وإن أدبرت قطّعوا السلاسل لحاقا بها.
واليوم لم يجزم القوم بعدُ أن الرجل راحل عن السلطة، وإلا لكانت غضبتهم أقوى وأكثر حدة، وكان هو نفسه الهدف من هجومهم جلدا وتوبيخا ووعدا ووعيدا، ولقالوها بملء الأسماع، أن ليس من حق "راحل مودع"، التغيير الجذري في الدستور والتلاعب بمؤسسات البلد، ولشرعوا في البحث عن مواطن القوة القادمة، لكنهم أيضا ليسوا جازمين بتشبثه بالسلطة والبقاء فيها، وإلا لستمروا في تجديد البيعة والولاء، والإيمان بالقضاء ـ وطب نفسا إذا نزل القضاء ـ
غير أن تصاعد الأزمة، إلى درجة تعطيل المسار التشريعي للبلد أثناء دورة برلمانية ينتظرها العديد من القوانين والاتفاقيات، وهيمنتها إعلاميا وسياسيا على محاولات إطلاق حوار سياسي ـ بمن حضر ـ وعد به الرئيس في النعمة، وإخفاق طرفيها في التوصل إلى صيغة تنهي لعبة كسر العظم بينهما ولو مؤقتا، ما كان لها أن تكون إلا إذا كان القوم أبصروا أو خيل إليهم في الأفق ما يشي بنهاية النظام، أو أرادوا جس النبض لمعرفة حقيقة احتمال رحيله عن السلطة، ومدى تمسكه بها، وهنا يمكن القول إن الرئيس قد يكون مضطرا للتدخل خلال الساعات والأيام القادمة، حيث تزيغ أبصار كثيرة، وتفرغ أفئدة عديدة، وتبلغ القلوب الحناجر في الحكومة والحزب ومجلس الشيوخ وطرف من النواب، تحسبا لذلك التدخل المنتظر، فالآمر الناهي المطاع الذي يتصارع القوم في ذاته ويتراشقون بتهمة خطيئة عدم الإخلاص له أو العمل ضد توجيهاته، لم يكشف بعد موقفه ـ علنا ـ من المتصارعين حول حلبته، وكل طرف يمني النفس والنصير بالفوز بدعمه.. "وكل يدعي وصلا بليلى.."، فلم يعد من الوارد منطقيا أن يظل الرجل ممسكا بالعصا من الوسط، في صراع أجنحة مقربيه، الذي بات يؤثر سلبا على أداء النظام وأجهزة الدولة، ويعطل العملية التشريعية في البلد، ويهدد بتوسع الصراع إلى أجنحة أخرى في السلطة "غير مدنية"، فلطالما فشلت النخبة السياسية في هذا البلد من التخلص من عقدة قيادة النياشين، والبحث عنها لتسليمها الخطام حتى ولو كانت تنأى عنه، أو لا تصلح له أصلا.
ولإن كان قادة معسكر الحكومة والحزب الحاكم يجزمون أن الرئيس لن يستنكف أن يكون داعما لهم، ولن يحيد عن موقفهم قيد أنملة، باعتبار أنهم حكومته وحزبه، وينفذون سياسته وتعليماته، وأن الحديث عن احتمال وقوفه على الحياد بينهم وبين خصومهم في الأغلبية، غير وارد، فكيف بالوقوف ضدهم، وأن الرئيس مدرك حق الإدراك أن غضبة الشيوخ مردها تصريحاته هو في النعمة، لكنهم ألبوسها لبعض أعضاء الحكومة وقيادة الحزب افتعالا وافتراء، إلا أن قيادات الطرف الآخر ترى أن تاريخها مع النظام وطبيعة علاقاتها بالرئيس الذي مكّن لهم ما لم يمكن لغيرهم، تكفي لضمان انحيازه لهم، وأن نصيبهم من ولاء الرئيس والتماهي معه، يجعل مناطحة الحكومة والحزب لهم، كمناطحة الجماء للقرناء، وخيمة العواقب محسومة النتائج، وأن قيادة الحزب ورئاسة الحكومة، لا قيمة لهما إزاء نفوذ علية القوم وإرادتهم وإخلاصهم للرئيس.
غير أنه من مفارقات أزمة صراع الأجنحة داخل النظام والتي تدور رحاها حول القرب من الرئيس والولاء والبراء، له أو من خصومه، دخول بعض شيوخ المعارضة على الخط، واقتحامهم معمعان معركة صراع الأغلبية على القرب والميراث الذي ينهون عنه وينأون عنه ـ ظاهرا على الأقل ـ دون أن تكون لهم علاقة بدوافع ونوازع تلك المعركة، ولا بأسلحتها ولا ميدانها، ولا حتى احتمال الغنم من أسلابها، تماما كما حصل لبعض قوى المعارضة سنة 2008، حين اندفعت في أزمة الرئيس يومها (سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله)، والجنرالات والنواب، فكانت نصلا في سلاح استخدم في معركة إزاحة الرئيس وأعيد إلى غمده بعد انتهاء المعركة.