منذ مدة وأنا أراقب في استغراب ما تقذفه مواقع التواصل الاجتماعي على صفحات بعض المدونين من حمم التطرف والغلو إفراطا وتفريطا..فبينما يجاهر أحد المدونين باستخفافه بالثوابت الدينية!، يتخذ مدون آخر من التكفير ردا جاهزا لمن ألقى إليه السلم إن كان يخالفه الرأي .!
ولأنه ليس لدعاة التفريط أدلة يدافعون بها عن سلوكهم المنحرف فإنهم لا يتطلبون ردا فكريا بقدر ما يتطلبون ردعا أمنيا شأنهم في ذلك شأن من يحاول أن يضرب استقرار الوطن ووحدة نسيجه الاجتماعي.
أما دعاة الإفراط فإن تجربتي الشخصية في القلق على هذا الوطن منهم وقناعتي بأن الفكر لا يحارب إلا بالفكر جعلتني ألبي أي دعوة تصلني للحديث عن خطورة الغلو والتطرف وأن هذا السلوك لا يمثل الإسلام ..ومع ذلك فإن قلقي على شبابنا يزداد يوما بعد يوم فقبل شهرين حدثني أحد الباحثين الشباب من مقاطعة "الطينطان" عن ما أسماه تنامي لظاهرة التكفير في بعض القرى الحدودية مع الجارة مالي.
وقبل أسابيع تم تكليفي من طرف وزارة الشؤون الإسلامية برئاسة جلسة علمية تتعلق بالوقف وأثره في التنمية في مدينة "أطار"، وفي ربوع تلك المدينة الهادئة دعاني بعض الأساتذة الثانويين للحديث عن خطورة التكفير في جامع السوق بالمدينة. !
والسبب الذي دعاهم لذلك هو انتشار التكفير في الوسط الشبابي في المدينة ولم تختلف أقوال الشيوخ في المسجد عن ما قاله الأساتذة،فكلهم قلقون على هدوء المدينة وجمالها.!
وقبل يومين فقط أكد لي أحدهم ما تداولته بعض الصفحات عن هجوم بعض المتشددين على ضريح لأحد مشاييخ الطرق الصوفية بولاية اترارزة وهو الأمر الذي يعيد للأذهان ما حدث في صحراء مالي عند سيطرة الجماعات المتشددة.
غير أن حواري مع نماذج مختلفة من أبناء محاظرنا جعلني أركب الصعب والحزم وأدع التردد لأدق ناقوس الخطر ولسان حالي:
فقلت من التعجب ليت شعري ................أأيقاظ أمية أم نيام
فماذا نتظر لنتحرك سؤال كنت سأدندن حوله منذ مدة حتى لاحظت الاهتمام المتزايد من وزارة الشؤون الإسلامية بالمرجعية الفكرية لبلادنا ممثلة في الثالوث الذهبي كما أسميه:(العقيدة الأشعرية- الفقه المالكي-التصوف السني).
وهي لفتة كريمة إخال أنها ما كانت لتكون لولا إرادة رئيس الجمهورية وقناعة الوزير الشاب بأهمية هذه المرجعية وضرورة بعثها بعد سبات عميق إن لم أقل: بعد التحريف والتشويه الذي تعرض له أساس هذه المرجعية وركنها المتين وأعني هنا :(عقيدة جمهور أهل السنة والجماعة "الأشعرية").
ولعل المتابع لنشاط الوزارة الأخير وبعض قنواتنا الفضائية سيستغرب كما استغربت من الجهل المستفحل في نخبنا بتاريخ المذهب الأشعري وأصوله وما ذلك إلا بسبب الغزو الفكري لمرجعيتنا العقائدية، فمن المعلوم أن المراكز التقليدية للإشعاع الفكري للأشعرية قد شهدت تراجعا في منتصف القرن الماضي وأعني هنا: الأزهر الشريف في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب.
وقد صاحب ذلك التراجع مد معاكس لتيار آخر يدعي أنه الممثل الوحيد لأهل السنة والجماعة وقد استطاع هذا التيار بفضل قدراته المادية أن ينشر فكره عبر وسائل عدة من بينها المنح الدراسية وتخريج دعاة من مختلف البلدان الإسلامية وكذلك الأشرطة والكتب التي ينفق عليها بسخاء هذا بالإضافة للجمعيات الخيرية والمعاهد الشرعية التي مافتئ يعرب عن استعداده لتمويلها ودعمها بكل مايلزم.
وقد تأثرنا في هذا القطر بذلك الزحف "المتسالف" كمايقول العلامة الشيخ حمدا ولد التاه وكما بين ذلك شهيد المحراب محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله بشكل مفصل في كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة لامذهب إسلامي"
فلم نعد ندرس مرجعيتنا لاسيما في بعدها العقائدي في مؤسساتنا الشرعية، وأنا أعلم بأن هذا الكلام كان إلى وقت قريب يعتبر من المحذور والمسكوت عنه إلا أنني قائله: فحين تغيب المرجعية الفكرية لبلادنا من أكبر مؤسسة شرعية بل ونطعن فيها في مناهجنا فهناك خلل!؟ وخطر!معا.؟
فأنا مثلا تخرجت من المعهد العالي ويقيني أن الأشعرية مدرسة كلامية مبتدعة لا أكثر شأنها في ذلك شأن المعتزلة وإن كنت لا أعلن ذلك لأنها لم تدرس لنا إلا في إطار الفرق الكلامية.
فلم ندرس العقيدة الأشعرية أحرى أن نمتلك وسائل الدفاع والمحاججة عنها ..حتى قيض الله لي التسجيل في جامعة القرويين فبدأت أفهم أن أغلب أهل السنة والجماعة هم أشعرية أو ماتريدية وأن من يسمون بالسلفية هم قلة كما قال الدكتور يوسف القرضاوي في محاضرة المشهورة في الأزهر الشريف.
وهكذا لم أستغرب وإن كنت مستغربا أن يتحدث محاضر يفترض به أن يدافع عن الأشعرية عن ما سماها بالمراحل الثلاث التي مر بها الأشعري فمرجعيته في ذلك حتما هي الكتب المخالفة أو الإنترنت فهي تعج بالحديث عن هذه المراحل الذي يتضمن طعنا ضمنيا في المدرسة الأشعرية وكأنهم يقولون شيخكم عاد فعودا ؟!
عاد ولم ينتبه القاضي الباقلاني لذلك!، ولا إمام الحرمين الجويني!، ولا أئمة الحديث كالنووي وابن حجر!، ولا سلطان العلماء العز بن عبد السلام ولا أصحاب التراجم!،عاد عن مذهبه وغابت عن أولئك وغيرهم واكتشفها "سلفية القرن الرابع عشر" ليرويها عنهم باحث موريتاني في قناة موريتانية :إنه البحث الأعرج !
غيرأن هذا التيار"السلفي" حتى لا أقول "المتسالف" على رأي الشيخ حمدن شهد منذ بداية القرن الواحد والعشرين ونهاية القرن العشرين حركة مد وزجر مذهلة فتراجع في بداية هذا القرن نتيجة أخطائه الفادحة التي أدخلت الأمة الإسلامية في حروب هي في غنى عنها.
بينما يشهد في هذه الآونة نموا مضطربا للإضراب الدولة المستحدثة له "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
وقد تم اختراق هذا التيار المنقسم على نفسه بين مايسمى بالسلفية المعتدلة أو العلمية ومايسمى بالسلفية المتطرفة أو الجهادية من قبل دوائر المخابرات الغربية أكثر من مرة فأضحت تحالفاته وحروبه غير مفهومة حتى لبعض المنتسبين له له والمتعاطفين معه فمن تحالف مع الولايات المتحدة إلى هجوم على مصالحها إلى تحالف من نوع آخر ..وفي هذا الصدد يستغرب بعض الباحثين أن يكون أبرز القادة المتطرفين في الشام أتوا من دول أوروبية بجوازات سفر مزورة أحيانا وأحيانا أخرى ..؟؟ومروا عبر أراضي الحليف الأوروبي "تركيا" ومع أن كتائبه أضحت على تماس مع حدود الكيان الصهيوني فلم تسقط في الأراضي الإسرائلية قذيفة من قبلهم ولو عن طريق الخطأ!.
كل ذلك وغيره جعل بعض الدول تعيد حساباتها مع هذا الفكر حربا أو حصارا أو تقويما ومراجعة !
و قبل أيام فقط أطل علينا بيان مجلس الوزراء بمنح رخصة للمعهد السعودي وهو أمر أقلق بعض النخب المثقفة وبعض المدونين الشباب بينما استبشر به آخرون واعتبروه قرارا صائبا ولهؤلاء وأولئك مبررات لاتخلوا من المنطقية.
فبينما تتخوف الطائفة الأولى من عودة الفكر المتشدد والمأزوم عبر هذا المعهد لاسيما إذا استحضرنا أن كل المشمولين في ملفات أمنية تتعلق بالإرهاب في بلادنا إما أن يكونوا من خريجي المعهد السعودي سابقا أومن أبناء التيار "السلفي"فكريا على أقل تقدير...فإن هذا التخوف سيصبح مبررا.
أما المتفائلون فإذا استثنينا منهم من يحنون إلى الفكر المتشدد ويكفرون الصوفية والأشعرية ويتطاولون على شيوخ المالكية واستثنينا منهم النفعيين ممن يريدون فتات الدنيا وينبهون على البعد الإقتصادي للمعهد من فتحه لفرص عمل ونحو ذلك وأن الدولة إنما قلبت بذلك للإغراء المادي .
فإن لدى المتفائلين بالمعهد السعودي الحق لاسيما اذا اتشعرنا الخطر الشيعي علينا وعلى المنطقة ولدى اخوتنا في المملكة العربية السعودية من التجربة في مواجهة هذا الخطر ماليس لنا ويمكننا فعلا أن نستفيد من تجرتهم هذا إذا صح ما يتحدث عنه البعض من مراجعة فكرية داخل التيار السلفي القريب من السلطة في المملكة العربية السعودية.
فنحن قادرون بحول الله وقوته على التعاون مع إخواننا من أهل السنة إذا شاءوا في الوقوف أمام المد المتطرف سنيا كان أو شيعيا ..غير أن المرجعية الفكرية لبلادنا يجب أنتظل خطا أحمرا لا يمكن تجاوزه ولا القفز عليه...فهي السد المنيع أمام موج التطرف...فإذا فرطنا في السد جرفنا الموج!
ولن نحافظ على هذا السد إلا إذا تضافرت جهود الدولة والعلماء والدعاة وشيوخ المحاظر .
فمن واجب الدولة أن تعيد النظر في المناهج التعليمية لتعرف مدى مطابقتها لهذه المرجعية وكذلك المحاظر العشوائية فمن غير المنطقي أن يقوم كل من هب ودب بفتح محظرة وتنصيب نفسه شيخا، وكذلك من واجب الدولة أن تراقب وسائل الإعلام وماتبثه من غلو في الجانبين(افراط وتفريط)
أما واجب العلماء والدعاة فهو إرشاد الناس وإسداء النصح للدولة وألا تأخذهم في الله لومة لائم.
ألا هل بلغت اللهم فاشهد.