ليس من المصادفة على أي نحو أن تشهد الأيام السابقة واللاحقة أيضا للقمة العربية السابعة والعشرين في العاصمة الموريتانية نواكشوط الكثير من مواكب التشييع وسرادقات العزاء للعمل العربي المشترك، وحتى لجامعة الدول العربية ذاتها، التي يستعجل البعض – دون وعي أو دراية بالنتائج – الإجهاز عليها أو تعديل موديلها – ميثاقها – لتكون ذات موديل حديث أسوة بالسيارات التي تتغير موديلاتها كل خمس سنوات لتجذب مزيد من المستهلكين لها بإضافة زوائد هنا أو تعديلات هناك، حتى ولو على المصابيح أو الشكل العام، ناسين أن المواثيق الدولية، ليست موديلات سيارات كما يحلو للبعض تشبيهها، ولكنها أطر للعمل والتعاون بين الدول بكل ما يعنيه ذلك من عمل سياسي، وحفاظ على المصالح الوطنية، وبذل كثير من الجهود للتوصل إلى توافقات تخدم مصالح الأطراف المعنية وعلى نحو يجعلهم مستفيدين، ومن ثم متمسكين باستمرار العمل من خلال منظمتهم أو إطار عملهم الذي ارتضوه.
ولا بد من الاعتراف بأن تكالب المشكلات على الوطن العربي – الذي وصل الحد بالبعض إلى إنكاره وإنكار وجود الأمة العربية أو التساؤل حتى عما إذا كانت لا تزال باقية !! – قد أفقد بعض الإخوة والباحثين ثقتهم في جدوى العمل العربي المشترك ذاته، وعلى نحو شعرت معه بالفعل بالكثير من الدهشة لحجم التحول في المواقف، وهو تحول تسعى بالفعل الكثير من القوى الإقليمية والدولية الطامعة والمتربصة بالدول العربية، والطامحة إلى مد نفوذها إليها، أو اقتطاع حتى أجزاء منها، أو دفعها للسير تحت مظلتها بشكل أو بآخر، إلى حدوثه وانتشاره، بل ومحاولة إقناع قطاعات متزايدة من المواطنين العرب به، وبأنه لا جدوى من العمل المشترك، ولا قيمة للجامعة العربية ولا لمؤتمراتها ولاجتماعاتها، وهذا كفيل لو حدث –لا قدر الله– بالوصول بالعرب إلى حيث يريد أعداؤهم المعروفين والمستترين والمتلونين، من داخلهم وإقليميا ودوليا أيضا، فالجامعة العربية على ضعفها، والمآخذ الموجهة إليها، لا تزال قادرة على حمل وخدمة المصالح العربية والعمل العربي المشترك، ولكن تحقيق ذلك والنجاح فيه، لا يتم بالقصور الذاتي، ولا يتحقق من نفسه، ولا يعود بالقطع إلى الجامعة العربية كمنظمة وأمانة عامة، ولكنه يعود إلى الدول الأعضاء في المقام الأول، إلى مواقفها ورؤاها، ولتقييمها لمصالحها، ومدى تحققها عبر العمل العربي المشترك من خلال الجامعة، وما إذا كان من صالحها تجاوزها أو عرقلتها – إذا استطاعت في ظرف أو آخر – لتحقيق مصلحة ما أو حسابات معينة – وفي هذه النقطة عادة ما تختلط الأمور، ويلعب الإعلام، بل الدعاية بمعناها الفج والمعروف، دورا كبيرا في التضليل أو التركيز على جوانب براقة والتعتيم على الجوانب الكاشفة أو غير المواتية أو المثيرة للقلق لدى تناولها أو الحديث عنها على المستوى العلني. ومع انعقاد القمة العربية السابعة والعشرين في نواكشوط، وما صاحبها فانه يمكن التطرق باختصار شديد إلى أبرز الجوانب ولعل من أهمها ما يلي:
*أولا: انه لابد من الاعتراف بأن موريتانيا الواقعة في أقصى المغرب العربي على ساحل الأطلنطي، قد قدمت بالفعل خدمة جليلة إلى العمل العربي المشترك، وإلى جامعة الدول العربية أيضا، بإعلانها استعدادها لاستضافة القمة العربية، بعد اعتذار المملكة المغربية عن تنظيمها في الموعد المحدد لها في مارس الماضي. وليس غريبا على الشعب الموريتاني العربي الأصيل أن يفتح ذراعيه للأشقاء العرب في مثل هذه الظروف الصعبة عربيا وإقليميا، وقد نجح الموريتانيون بالفعل في مهمة استضافة أول قمة عربية تعقد في رحاب عاصمتهم للمرة الأولى، وقد انطوى ذلك على الكثير من الجرأة والثقة أيضا، وهو ما أكدته مسارات القمة.
وإذا كان مرفوضا الغمز، بأي شكل، من القناة الموريتانية، فان المؤكد هو أن شجاعة موريتانيا قد حفظت للقمة العربية دوريتها، التي تحققت بعد طول معاناة، كما أنها وفرت على الجامعة العربية مشكلات التعرض لتأجيل القمة، وما إذا كان ذلك سيستمر لعام واحد أو أكثر، وفقا للظروف والتطورات التي تتعرض لها المنطقة، ومحاولات إشعال النار في أكثر من دولة من دولها والتكالب عليها، كما لم يحدث من قبل.
أما فيما يتصل بمستوى التمثيل في حضور القمة، وعدد القادة الذين حضروا، فانه مع إدراك أهمية مشاركة أكبر عدد من القادة العرب في القمة، إلا انه من المعروف أن عدد المشاركين لم يزد في افضل الأحوال عن ثلثي عدد القادة العرب تقريبا –خاصة على امتداد السنوات الأخيرة- والمؤكد أن قرارات عدم المشاركة في القمة إنما تعود لأصحاب الجلالة والسمو والفخامة قادة الدول العربية وظروفهم وتقييمهم لما يمكن أن تكون عليه القمة، ومدى أهمية وإلحاحية المشاركة من عدمها، وهذه كلها أمور لا تتصل بموريتانيا التي ترتبط بعلاقات طيبة مع كل الأشقاء العرب . وإذا كانت موريتانيا قيادة وحكومة وشعبا قد حرصت على توفير كل ما يمكن أن يسهم في نجاح القمة، تنظيميا ولوجيستيا وإداريا بالتعاون مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، بغض النظر عن أية صعوبات جرت، إلا أن مسؤولية ما تتمخض عنه القمة من قرارات وتوصيات إنما يقع في المقام الأول على عاتق الدول العربية ذاتها وليس على عاتق الدولة المضيفة، التي تحاول التوفيق قدر الإمكان في حالة حدوث تعارض بين الأشقاء حول مسألة أو في فقرة في الصياغة أو غيرها . يضاف إلى ذلك انه من غير المناسب استخدام تعبيرات وتوصيفات النجاح والفشل على إطلاقها، ليس فقط لأنها توصيفات تظل نسبية بطبيعتها، ولكن أيضا لأن ما يعتبره طرف ما نجاحا قد يعتبره طرف آخر غير ذلك من ناحية، ولأنه ليس من المتصور ولا من المفترض أن تقوم قمة نواكشوط بحل الخلافات العربية، أو بإطفاء الحرائق العربية المشتعلة من خلال القمة من ناحية ثانية . ولذا فانه حسبها أن تعيد القضية الفلسطينية إلى موقعها الطبيعي على قمة القضايا والاهتمامات العربية مرة أخرى، بعد أن تعرضت للتهميش أو الانزواء بفعل التكالب على دول وشعوب المنطقة ومحاولات قوى إقليمية ودولية إلهاء العرب بقضايا أخرى، بما فيها الإرهاب والتمدد على حساب الأراضي العربية أيضا.
*ثانيا: انه إذا كان من المهم والضروري العمل بكل السبل الممكنة من أجل تعزيز سبل العمل العربي المشترك وأدواته، عبر جامعة الدول العربية، وعبر الهيئات والمنظمات المتخصصة التابعة لها، خاصة في ظل الظروف الراهنة التي تستوجب الإسراع في ذلك، فان حديث الينبغيات يطول في الواقع، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل تريد الدول العربية – أو معظمها على الأقل – دعم الجامعة العربية وتقويتها وتفعيل قدرتها على الحركة بشكل حقيقي ؟ أم أن الوضع الراهن للجامعة هو ما تريده معظم الدول العربية لها ؟ خاصة وانه وضع يحافظ على مبدأ التعاون الاختياري بين الأشقاء، ويضع على عاتق الدول العربية وحدها مسؤولية تنفيذ القرارات التي تتخذ في إطار الجامعة ووفق نظمها الداخلية، وللأمانة العامة للجامعة إمكانية الاستفسار عن تنفيذ قرارات ما، أي السؤال عما تم بشأنها، ولكن ليس لها حق المتابعة أو الضغط أو الدفع لتنفيذ قرار ما . ومن هنا فان الدول الأعضاء هي صاحبة الكلمة النهائية في الالتزام من عدمه، وذلك بالنسبة للقرارات التي توافق عليها أما القرارات التي لا توافق عليها أو تتحفظ حيالها، فإنها غير ملزمة لها، وذلك بالنسبة للقرارات التي لا تتخذ بالإجماع . ولعل السؤال هو هل الإجماع هو وسيلة إصدار القرارات في الجامعة أو شرطها ؟ المؤكد، برغم كل ما يقال على كثير من المستويات، أن جامعة الدول العربية لا تأخذ بالإجماع قانونا إلا في حالتين اثنتين فقط وفقا لما ينص عليه ميثاق الجامعة وهما حالة استخدام القوة العسكرية لرد عدوان تتعرض له إحدى الدول الأعضاء، ولا يحسب في التصويت صوت الدول المعتدية، وحتى هذه الحالة تم تعديلها بموجب معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية عام 1950 والتي تأخذ بقاعدة الثلثين للموافقة على استخدام القوة العسكرية . أما الحالة الثانية التي تطلب الإجماع فإنها تتصل بطرد إحدى الدول العربية من الجامعة وقد تم الأخذ بقاعدة الإجماع لجعل مثل هذا القرار صعبا، وذلك للحفاظ على استمرار عضوية الدول العربية في الجامعة، وفي حال اتخاذ قرار بالطرد في حق أية دولة عربية فلا يحسب بالطبع صوت الدولة العربية المتخذ في حقها قرار الطرد. وبالتالي فان جامعة الدول العربية لا تعرف أسلوب الفيتو مثلا المتبع في مجلس الأمن الدولي. من جانب آخر فان هناك حالتين فقط نص عليهما الميثاق لإصدار القرارات بأغلبية الثلثين وإلزامه لكل الدول الأعضاء وهاتان الحالتان هما تعيين الأمين العام للجامعة والموافقة على تعديل الميثاق وعدا تلك الحالات الأربع المشار إليها فان القرارات تصدر بالأغلبية وتكون ملزمة لمن يقبلها، وكان الأخذ بذلك الأسلوب من قبيل تسهيل العمل بين الدول الأعضاء في الجامعة وإتاحة الفرصة للأخذ بأكثر من سرعة؛ لأنه تم السماح للدول العربية باتخاذ إجراءات للتعاون فيما بينها بشكل يزيد على ما تضمنه ميثاق الجامعة، وذلك هو ما استندت إليه بعض الدول العربية عندما دخلت في صيغ اتحادية وسيغ تعاون، مثلما حدث في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وغيره.
وفي النهاية وباختصار شديد فإن الحديث عن قاعدة الإجماع في التصويت في جامعة الدول العربية هو حديث لا يستند إلى أي أساس قانوني، ولكنه ظهر فقط من حرص الدول العربية على تحقيق أكبر قدر ممكن من التوافق فيما بينها ضمانا لاستمرار تعاونها وللحفاظ على علاقاتها قوية داخل الجامعة وخارجها، ولكن ذلك لا يمكن أن يترتب عليه تغيير قانوني في الميثاق . إن الحديث عن تعديل ميثاق الجامعة العربية حديث مضى عليه عدة عقود وهناك مشروعات عديدة للتعديل منذ سنوات، ولكن الحقيقة هي أن الأمر يعود إلى أن الدول العربية لا تتوفر لديها الإرادة الكافية لتفعيل الجامعة، بل إنها تجد في ضعفها فائدة لها؛ لأنها لا تلزمها بشيء، كما أنها تمتص غضب الشعب العربي الناقد لضعف العمل العربي المشترك، فالدول العربية تختبئ بالفعل وراء الجامعة، ولآن الآمال لا تتحقق من تلقاء نفسها فان توفر الإرادة الفردية والجماعية العربية لتعزيز العمل العربي المشترك من خلال الجامعة هو شرط ضروري ولا غنى عنه للسير نحو ذلك .
وهذه الإرادة لم تتوفر بعد لأسباب كثيرة يطول شرحها . وفي ضوء ذلك يجب النظر إلى قمة نواكشوط وشكر موريتانيا على إنقاذها لدورية انعقاد القمة العربية في حد ذاتها، ولعل الدول العربية تشعر بأهمية وضرورة تفعيل العمل العربي المشترك، والمؤكد أنها إذا لم تشعر بذلك الآن وفي ظل الظروف الراهنة فإنها لن تشعر به أبدا.
د. عبدالحميد الموافي