استراتيجية الطريق الثالث في الخطاب السياسي/ عبد الفتاح عبد الفتاح

بعد سنتين من انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، تمكن خصومه الجمهوريون من الحصول على أغلبية مقاعد الكونغرس الأمريكي لأول مرة في تاريخهم منذ أربعين سنة، وهو ما كان إنذارا مبكرا للرئيس الديمقراطي الجديد بيل كلينتون وهو على بعد سنتين من الانتخابات الرئاسية القادمة. استطاع كلينتون أن يعيد ترتيب الأوراق من خلال إدخال مفهوم جديد على السياسة الأمريكية حيث كان هنالك دائما حزبان لكل منهما ايديولوجيته وخطابه الخاص، فقرر أن يقف بين الحزبين ثم يرتفع فوقهما (وهو رئيس لكل الأمريكيين) ليأخذ من كل منهما أفضل ما لديه، وقد استطاع كلينتون بهذه الاستراتيجيته أن يكون أول رئيس ديمقراطي يعاد انتخابه بعد فرانكلين روزفلت الذي غادر السلطة سنة 1945.

يمكن تصوير مفهوم كلينتون الجديد على شكل مثلث يقف الرئيس على هرمه آخذا من كل من الخطابين الديمقراطي والجمهوري ما هو أقرب للأمريكيين، وهو ما جعل هذا المفهوم يعرف لاحقا ب التثليث أو الطريق الثالث (‪Triangulation)، مع أن بعض منظري هذا الخط يعتبرون أنه مجرد شكل آخر من جدلية هيجل المعروفة والتي تعتبر أنه يمكن التغلب على الصراع بين الأطروحة (‪Thèse) ونقيضها (‪Antithèse) من خلال تركيبة (‪Synthèse) تأخذ من كل منهما أكثر ما فيه إقناعا.

انتشرت هذه الاستراتيجية لاحقا حيث تم اعتمادها من طرف عدة زعماء، فأعاد توني بلير في بريطانيا تأسيس حزب العمال البريطاني حسب هذا المنهج من خلال "حزب العمال الجديد" ليكسر بذلك سيطرة المحافظين على الحكم التي امتدت قرابة عقدين من الزمن وليحكم هو بريطانيا 10 سنوات وهي أطول فترة قضاها رئيس وزراء ابريطاني. و في تركيا شكل رجب أردوغان أيضا حزب العدالة والتنمية (العثمانيون الجدد) على أنقاض حزب الفضيلة الإسلامي كخط جديد يرتفع عن الصراع التقليدي بين العلمانيين والإسلاميين ويأخذ من كل منهما جزء من خطابه، وهو ما أوصلهم للحكم عام 2002 بعد سنة واحدة من تأسيس الحزب وما زالوا مستمرين فيه لحد الساعة.

حدثني ذات ليلة صديق معارض ينتمي لأحد التيارات الإيديولوجية أنه كان هو وبعض رفاقه حين يستمعون لخطابات الرئيس محمد ولد عبد العزيز سنة 2008 أو يشاهدونه يزور المزارع أو يشق قنوات الري أو يدخل أحياء الصفيح كانوا يتساءلون إن كان للرجل انتماء لفكرهم، ولا شك أننا جميعا سمعنا مرارا من يقول وقتها أن الرئيس انتزع من المعارضة خطابها الذي تميزت به في السنوات السابقة لحكمه والمتعلق بضرورة الاعتناء بالفقراء والطبقات المهمشة ومحاربة الفساد وترشيد الأموال العمومية، والأمر فعلا كان كذلك، فعند مراجعة خطاب تلك المرحلة يمكننا ملاحظة اعتماد استراتيجية الخط الثالث، فبالإضافة لأخذ أهم ما ميز خطاب المعارضة فقد أخذ كذلك ما كان يعتبر مهما لدى كثيرين من خطاب النظام الذي  تركز وقتها على أهمية الأمن والاستقرار، فتوجه نحو تقوية الجيش وإصلاح الحالة المدنية وتأمين الحدود.

هذا الخطاب الجديد المختلف عن الثنائيات التي كانت قائمة هو ما مكن الرئيس من الحصول على دعم طبقات عريضة من الشعب جعلته يحسم انتخابات 2009 من الشوط الأول، بشكل فاجأ زعماء المعارضة، وقد سمعت عن أحدهم أنه قال أنهم لم يُقدروا درجة التحول التي أحدثها الخطاب لدى عامة الشعب إلا متأخرا.

استراتيجية الطريق الثالث تستطيع إذا توفير خلاصة من الرأي والرأي المخالف يتبناها رأس هرم المثلث لتدعم المسار وتساهم في الإصلاح، هذا أيضا ما يمكن أن يحققه الحوار بجمع الطرفين ليخرجا بنفسهما بالخلاصة المطلوبة.